المرجعية الفكرية للثورات العربية
عصرٌ جديدٌ يتشكّل، وتاريخٌ مضيء يسجَّل، روحٌ وثّابة تسري في كيان الشعوب، وقلوبٌ عاد إليها نبض الحياة، إرادة التحرّر تقود ثورات، وهِمم وإرادات أدهشت العالم وصفعت الأنظمة وأصابتها بالهَوَس والذهول... وإلا فكيف نستطيع أن نفسِّر حال ناس يواجهون دبابات أنظمتهم بصدورٍ عارية وأكُفّ ليس لها عمل إلا الضراعة إلى الله، وهم هم بالأمس كانوا يخافون التهامس فيما بينهم خلف الأبواب المغلقة؟ فما الذي حصل؟ ما الذي تغيّر وغيّر حال الناس، وقد مكثوا سنوات ينتظرون المخلِّص فإذا بهم يصبحون المخلِّصين؟
إنّ الأفكار تشكِّل شخصية الإنسان وتحدد مسار حياته، وتقود خطواته، وإذا ما كان منطَلقها الكتاب والسُّنة وما يَدْعُوان إليه من قِيَم إنسانية فإنها تُحدث ثورة تغييرية في حياة الفرد الواحد... فما بالنا إذا تبنتها جماعة من الناس؟ وكيف الحال إذا تحرّكت بها شعوبٌ بأسرها؟
فمن الذي يشكّل مرجعية ثورات الشعوب في إنتاج أفكارها؟ وما دور المفكِّرين "البنائي" أثناء وبعد الثورة؟ وهل إنسان العصر الجديد اختلف جوهرياً عن سلفه حتى استطاع أن يقود التغيير الجذري على صعيد الأمة؟... للوقوف على طبيعة الإطار الفكري الذي تتحرك ضمنه الشعوب في ثوراتها نستضيف الباحث والكاتب الإسلامي السوري د. عبدالكريم بكار والباحث الإسلامي الفلسطيني المحلل والناقض د. غازي التوبة؛ فإلى الحوار...
جماهير الثورات... مَن يقودها؟
• ثمة مَن يَعيب على ثورات الربيع العربي افتقارها لأيّ مرجعية فلسفية أو فكرية تضبط غوغائية الجماهير التي تسير هائمة تائهة بلا رأس يقودها: فهل الأمر في حقيقته كما يُصوِّره هؤلاء؟
يرى د. بكار بأنه كان في الماضي لأفكار الفلاسفة تأثير كبير في قيام الثورات، لأن الأفكار الثورية لم تكن ناجزة بما يكفي، ولأن الأفكار الموروثة عن عصور الاستبداد كانت معشِّشة في عقول الناس، أما اليوم فإن كل الأفكار والقيم التي تحتاج إليها الثورات موجودة ومنتشرة وراسخة في حياة شعوب كثيرٍ من الدول . ويتابع: وفي الدول التي يسودها الاستبداد هناك ناشطون سياسيون وحقوقيون يعملون على نشر ما أشرنا إليه وعلى تهيئة الظروف لتطبيقه، ولهذا فإن الشباب العربي استطاع إنجاز الكثير خلال الخمسة عشر شهراً الماضية من غير الحاجة إلى قيادات فكرية وثقافية بارزة.
في المقابل ويعتقد د. التوبة بأن الذين يتهمون ثورات الربيع العربي بأنها ثورات جماهير غوغاء هائمة وتفتقر للمرجعية الفلسفية الفكرية أخطأوا لأنهم لم يضعوا هذه الثورات في إطارها الصحيح وهي أنها ثورات أمة عربية إسلامية ذات نسيج ثقافي ونفسي وعقلي واجتماعي واحد مرتبط بعوامل تكوين الأمة الإسلامية. وأيضاً لأنها أمة ثارت على الاستبداد والظلم، وعلى المشروع التغريبي، مستندة إلى المرجعية الإسلامية. والحقيقة، إن هذه الجماهير الثائرة ليست غوغاء هائمة بلا قيادة، بل يقودها التيار الإسلامي على اختلاف أطيافه وألوانه.
فلسفة الثورة
• ولدى سؤالنا ضيفيْنا عما إذا كانت الفلسفة هي التي تُنتج ثورة أم العكس؟ أجابنا د. بكار عن تجليات ذلك بقوله: تقوم الثورات على مجموعة من الأفكار والقيم مثل العدالة والحرية وتكافؤ الفرص ومكافحة الفساد والتحرر من سيطرة الأجنبي، ومن سيطرة الطُّفَيليين والفاسدين، وهذه الأفكار والمبادئ متوفرة لدى الثوار في جميع البلدان التي قامت فيها انتفاضات الربيع العربي، وتكون مهمة الثورة تعميم هذه الأفكار وترسيخها والكشف عن إمكانات تطبيقها وتفجير الطاقات الروحية للتضحية من أجلها، ولعل أهم ما اكتشفه الناس أنهم أقوى مما كانوا يظنون، وأن حكامهم أضعف مما كانوا يظنون.
في حين يؤكد د. التوبة على أنّ مفهوم الولاء للإسلام هو الفلسفة التي تقوم عليها ثورات الربيع العربي، وما يلزم عنه من الارتباط بأمته، والانتصار لها، وإعلاء قيمها في وجه المشروع القومي العربي التغريبي الذي استهدف استئصال كيان الأمة خلال القرن الماضي، وفشل في ذلك فشلاً ذريعاً حيث انتصرت مبادئ الإسلام وقيمه.
واجب المفكِّر
ونتابع مع د. التوبة في مناقشة واجب المفكِّر في مهمة البناء بعد الثورة؛ حيث قدّم صوراً من مظاهر إسهامه في هذا البناء ومنها: أن يعيَ المفكِّر العناصر التي بنت هذه الأمة من ثقافة واحدة، ولغة واحدة، وتاريخ واحد، إلخ... ويحقق الانتماء لهذه الأمة بأن يعيش همومها وآمالها وآلامها، و يُشارك أبناءها في ثورتهم وانتفاضتهم، ويتقدم صفوفهم، ويكون أكثر تضحية من الناس العاديِّين لأنه أكثر وعياً لعظمة هذه الأمة، وقد كان علماء الأمة - في الماضي - في مقدمة المفكرين الذين يتقدمون الصفوف في مواجهة المشاكل التي تداهم الأمة، وفي تحمُّل أعباء حَلّها.
ويرى د. بكار أنّ للمفكر دوراً أساساً في مرحلة ما قبل الثورة وأثناء إنجازها وفي مرحلة إعادة البناء. ويعتقد أن الثورة عبارة عن عمل جراحي في جسم الوطن، ويحذّر العمل الثوري السلمي والمسلَّح من تفكُّك مؤسسات الدولة، ومن العبَث بالنسيج الاجتماعي. ويكمن دور المفكرين - بحسب د. بكار - في نشر الأفكار المتعلقة بهذا المعنى. ويستطرد قائلاً: أما بعد نجاح الثورة فإن دور المفكرين يكمن في العمل على جعل أهداف الثورة حاضرة في وعي الجماهير ووجدانهم، وفي طرح الأفكار العملية التي تساعد البلد على النهوض على أساس القيم العالمية المشتركة من نحو التراحم والتسامح والتعاون والتضحية والحرية والعدل وحفظ الحقوق والاستقامة...
ما الذي تغيّر؟
• من سبعينيات القرن الماضي إلى العقد الأول من الألفية الثالثة: ما الفروقات الجوهرية بين الأجيال المتعاقبة التي أنتجت في محصِّلتها ما نشهده اليوم من انتفاضة الشعوب على أنظمتها؟
يتحدث د. التوبة عن جيلين تعاقبا بين هاتين الفترتين، الأول: جيل الصحوة الذي أفشل المشروع القومي العربي الماركسي التغريبي الذي اعتبر أن الدين الإسلامي سبب التخلف والانحطاط، والذي حاول استئصال الدين من حياة الشعوب العربية، ولكنه فشل في ذلك، وعاد الناس إلى دينهم وربهم، وامتلأت المساجد بشباب الصحوة بعد نكسة 1967، وامتلأت الجامعات بالطالبات المحجبات، وراج الكتاب الإسلامي، وانتشرت البنوك الإسلامية إلخ... الثاني: جيل الانتفاضة، وهو الجيل الذي فجّر ثورات الربيع العربي التي نعيش نتائجها المبشِّرة الآن.
ويذهب د. بكار باتجاه اختلاف الأفكار والوسائل والآليات بين الجيلين، حيث يعلّق قائلاً: حين نعود أربعين سنة إلى الوراء، فإننا سنجد أن الفكر السياسي وسنن التغيير في المجال السياسي كانت ما بين مفقود ومشوَّه، كما أن معرفة الناس بالواقع وآليات التغيير السلمي كانت شبه معدومة، نضيف إلى هذا أن وسائل الاتصال والتواصل كانت لا تقارن مع ما هو متوفر الآن، والجيل القديم كان جيل خطابة وكلام عامّ، أما الجيل الجديد فهو مؤمن بجدوى العمل التراكمي، لأنه مهتم بالمشروعات الصغيرة. . وقد استطاع أن يصنع ثورة وطنية.
البيئة الحاضنة
• يقولون: إن الثورات تحتاج إلى بيئة حاضنة تُمِدّها بما يلزمها من أغذية: فما مقومات البيئة الحاضنة لثورات الربيع العربي ولما بعدها؟ وعلى كاهل مَن تقع مسؤولية توفير هذه البيئة؟
الشعوب العربية هي التي توفر البيئة الحاضنة للثورة، وهي المؤتمنَة عليها والضامنة لاستمرارها، وليس هناك جهة أقدر على فعل ذلك من الشعوب... هذا ما يراه د. بكار الذي يضيف: كلنا أمل في أن يتخلص المتردِّدون من تردُّدهم، وأن يدرك الخائفون من المستقبل وعليه؛ فإن الربيع العربي هيّأ للناس فرصة للتخلص من الطغيان قد لا يعثرون عليها إلا بعد زمن طويل. في حين يقدّم د. التوبة توصيفاً لهذه البيئة بقوله: إن أبرز مقومات البيئة الحاضنة لثورات الربيع هي تعميق مساحة الوعي بأحكام الدين الإسلامي في مجالات التوحيد والاجتماع والاقتصاد والسياسة إلخ.. وبتوضيح كيفية بناء القلوب، وكيفية إقامة الطهر والعفاف والاستقامة، وكيفية إقامة العدل والمساواة إلخ... ولاشك بأن العلماء ورثة الأنبياء هم الذين يجب أن يقوموا بتوفير هذه البيئة الحاضنة لثورات الربيع العربي.
حقائق كشفتها الثورة
• الثورات مهمتها الكشف عن حقائق الأشياء: معادن الناس، طبيعة الأنظمة... فعمّا كشفت ثورات الربيع العربي بشكل عام والثورة السورية بشكل خاص؟
كشفت ثورات الربيع العربي بشكل عام مدى الإفساد والتخريب والتدمير الذي قامت به الأنظمة السابقة في حياة المجتمع والناس والأفراد والاقتصاد والزراعة والأخلاق والقيم إلخ... بحسب د. التوبة.
ويؤكّد د. بكار على أنّ: في حياة الشعوب كوامن لا تُخرجها إلا الثورات... ويضيف: من الواضح أن الثورة السورية قد كشفت على نحوٍ واضح عما لدى الشعب السوري من رجولة وشهامة وقدرة على التنظيم والبذل، لكنها كشفت أيضاً عن حقيقة مُرّة: هي أن لديهم نظاماً هو من أسوأ النظم السياسية في العالم. الثورة السورية فضحت التحالفات الطائفية، وكشفت زيفَ من يدّعون المقاومة والممانعة... الثورة السورية عرَّفت الناس على أنفسهم وأظهرت حجم التخريب الذي أحدثه النظام في عقول ونفوس شريحة واسعة منهم.
مستقبل سوريا
• وحول مستقبل سوريا في ظلّ معارضة غير موحّدة ونظام ظالم لا يرحم، يقرِّر د. بكار بأنه لن يكون للثورة معنى وقيمة ما لم يرحل النظام، وما لم يتم تفكيك المؤسسة الأمنية التي هي أساس البلاء وأداة الشر... مستطرداً: لا شك في أن البلد سيمر بمرحلة انتقالية لا تخلو من شيء من الاضطراب والارتباك، لكن طول أمَد الثورة أتاح للثوار والداعمين لهم أن يقيموا الكثير من الأطر التي تساعد على نجاح الثورة... وأنا أشعر مع الأسف الشديد أنّ رأس الثورة لا ينمو بما يواكب نموّ جسدها، ولهذا فإنّ هناك قصوراً واضحاً في استثمار الموارد المتاحة، لكنْ كل شيء آخذ في التحسُّن بحمد الله.
ويعبّر د. التوبة عن تفاؤله بقوله: لا شك أن سورية ستنتصر على هذا النظام الظالم مع كل الصعوبات التي تواجه الشعب السوري في الداخل والخارج؛ فقد مضى عام على هذه الثورة، وقدّم الشعب ما يقرب من عشرة آلاف شهيد، ومع كل تآمر المجتمع الدولي وتجاهل المجتمع العربي فإن الثورة تزداد اشتعالاً، مما يجعلنا متفائلين بأن النصر سيأتي بإذن الله مع صعوبة التحديات التي تواجه الشعب السوري.
إنسان جديد ومجتمع مختلف
• هل ستؤسس الثورات لشخصية الإنسان الجديد بأبعاده كافة في عالمنا العربي، وكذلك لبيئة مجتمعية عربية مختلفة عما عهدناه في مجتمعاتنا على مختلف الصُّعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية...؟
ليس عندي أدنى ريب في أن ثورات الربيع العربي تؤسس لنهضة حضارية جديدة، وربما تكون فريدة، هذا ما يؤكّده د. بكار معلِّلاً: ذلك لأن الجانب السياسي كان على مدار التاريخ الإسلامي يمثل الخاصرة الرِّخْوة في جسم الحضارة، فإذا تخلص العرب من الاستبداد، واستعادوا ولايتهم على أنفسهم، فإننا نتوقع أن نرى شعوباً ترمي وراء ظهرها إلى غير رجعة سبعة قرون من الجهل والتخلف والفقر والاستكانة والجمود! نحن لا نعرف الغيب، لكنّ قراءتنا للسنن الربانية تدلنا على ما نقول؛ والله غالب على أمره، وله المِنّة في الأولى والآخرة.
وبعد، فإن الشعوب العربية في ثوراتها ليست كما يصفها بعض الحاقدين والمتضررين بأنها فارغة؛ بل إنها في أكثر مراحلها وعياً وتصميماً وقدرة على الفعل بعدما فَقَدَتْه حيناً من الدهر... فنسأل الله تعالى أن يُتم علينا نصره وأن يجعل من الثورات بداية نهضة حضارية جديدة فريدة، متوجِّهة "منبرالداعيات" إلى ضيفيها الدكتور عبد الكريم بكار والدكتور غازي التوبة بالشكر على إطلالتهما القيِّمة هذه من خلال صفحاتها.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن