ترتيب الأولويات.. وأثرها في تحقيق الذات!

لهذا العنوان أكثر من مقصد وغاية يُراد منها ويفهم على أساسها ولقد أردت أنا فيه تحديدًا الربط بين أولويات المسلم نحو نفسه ومجتمعه وأمَّته وأثر ذلك كله في تغيير المعادلات والوصول إلى تحقيق الذات، مع بيان العواقب الوخيمة المترتبة على فشل هذا الترتيب المطلوب، والوقوع في ما يجعل المطلوب تقدّمه متأخِّرًا وما ينبغي تأخيره متقدِّمًا.
وحتى ننطلق من قاعدة إيمانية في بحثنا هذا نعود أولًا إلى السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام لنجد أنّ بداية الدعوة إلى الله كانت ولمدّة تقارب ثلاثة عشر عامًا تقوم على بناء التوحيد في القلوب وهي الأولوية المطلقة التي لا تنافسها أية أولوية ثانية. وكانت التربية النبوية تستمدّ عمادها من هذا المنطلق فلا بناء دولة ولا حروب ولا فتوحات بل توحيد وإيمان وبناء القلوب على هذا الأساس، حيث نشأ مجتمع مثالي فيه انصهار اجتماعي كان قوامه ما تحقق في الهجرة النبوية من مظاهر الإيثار والاقتران والمصاهرة ووحدة القلوب. ومن بعد ذلك بدأت مرحلة ثانية في بناء الدولة الإسلامية في المدينة ومركز ثقلها المسجد الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي التشاور فيه والرجوع إليه في فضِّ كلِّ خلاف على هدي الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأُمَّة لقد كانت هذه الأولوية مضمَّخة بالدم قبل الوصول إلى ما تلاها وكان لها شواهد وأعلام حيث كان عمار بن ياسر وبلال بن رباح ومصعب بن عمير في طليعة هذه المرحله. من الصبر على دين الله وتحمُّل الألم وثقل الصخور، وعلى الزهد في المال وشظف العيش بعد الرغد فيه. ولولا هذه التجارب لما كان للجيل الإسلامي بعد ذلك تحقيق أيّة مكاسب.
ويمكن القول إن الله سبحانه وضع لعباده سلَّم الأولويات في حياتهم في العبادات والمعاملات. وذلك نجده في ترتيب الوقت في الصلاة وعدم تقديم فرض فيها على فرض ولا واجب على مندوب ومسنون، وقِسْ في ذلك على الصيام وما فيه من ترتيب في صيامه وقيامه. وفي الزكاة وما فيها من ترتيب وتوقيت وفي الحج وما فيه من ميقات وتقديم وتأخير. ويمكن القول إن هناك تجاوز في هذه الأخيرة أي عبادة الحج من حيث أنها فريضة لمرّة واحدة في العمر لمن استطاع إليها سبيلًا. ومع ذلك فإن كثيرًا من المسلمين الموسرين يقدِّمون الحج تلو الحج والعمرة بعد العمرة مع اختيار أحسن الفنادق والمنازل بأسعار فاحشة فقط لمجرد إثبات الذات بهكذا عبادات. مع أن إطعام الجوعى من المسلمين وسدَّ رمقهم وعدم تركهم فريسة للإرساليات التبشيرية هو من أولى الأولويات في حفظ كرامة المسلم ودينه. وأما ترتيب الأولويات في المعاملات فإن الإسلام وضع نظامًا بديعًا فريدًا لا يضاهيه نظام بشري أو حتى يقترب منه. وذلك نجد له مثالًا في حقوق الوالدين حيث جاء ترتيبه عقب عبادة الله وحده وذلك في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَا}. وهو ما فسَّره حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للرجل الذي جاء يسأله: "مَن أحقّ الناس بصحبتي يا رسول الله قال أمّك قال ثم مَن قال أمك قال ثم مَن قال أمك قال ثم مَن قال أبوك". ويمكن أن نضع كلَّ المعاملات التي يفترض أن يكون ترتيبها حسب الأوْلى فالأولى وذلك في آية واحدة جامعة في قوله تعالى: {وَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل}.
ولقد وُضع للمسلم المؤمن أولويات في فقه دينه الحق عليه أن يتعامل معه على أساسه حتى لا يقع في حيرة من أمره، وذلك سواء على صعيد الأفراد وعلى صعيد الجماعات وتحديدًا الجماعات الإسلامية التي حملت على عاتقها أمانة تبليغ الدين وإقامه شرع الله في الأرض بالتأييد له والتمكين. ولقد اختلفت هذه الجماعات فيما بينها على تحديد الأولويات واعتمد أهل التنظير فيها على اجتهادات مختلفة منها ماهو مشروع الابتداء به. ولكن هناك من وضع أولوياته وهي التي في سلّم آخر أولويات سواه أو في الوسط منها وبذلك أصبح الأمر يشبه حال من أراد ترتيب الخرز في مسبحة فكلما وصل إلى ترتيب عدد فيها جاء من أعاده إلى كرّها من جديد ليعودوا جميعًا إلى أوَّل حبَّة عقد فيها. ونقول هنا ولجلاء الصورة أكثر إن الأولويات عند بعض المسلمين وهم في موقع الريادة والقيادة في الحركة الإسلامية كان في بناء العقيدة والبحث في الصحيح من السقيم من الأحاديث النبوية والتحرّي في التمييز بين السُّنة والبدعة من العبادات، ولقد أفنى أصحاب هذه الأولوية نصف أعمارهم وهم يقفون عند هذا الحدِّ ولم يتغيّر في واقع الأمَّة ومستقبلها أيّ شيء.
وجاء بالمقابل من يعاكسهم تمامًا ويقول بأن الأولوية هي في تحذير الأمّة من الكفر وأنواعه والبحث في تنزيه الخالق عن كلِّ صفات البشر والبحث في قضايا متشابهة غَيْبِيّة بقصد إحجام الناس عن إنزال الخالق منازل الصفات الآدمية. وهم قد خاضوا فيما ليس فيه ضرورة إيمانيه من البحوث العقلية المستمدة من الفلسفات الجدلية اليونانية. ولم يصلوا بذلك إلّا إلى أجيال تعيش الدعوة بلغة لا تمتُّ لروح الدين القويم بأيّة صلة وجدانية بل هي مماحكات وصراعات لا تقدِّم للدين أيّة خدمة جليّة.
وجاء آخرون وتقدَّموا بالقول إلى الابتداء بأولوية الخلافة الإسلامية ووضعوا منهج الدولة تلك قبل أن ترى النور. وهو ما يشبه شراء أثاث البيت ووضعه في العراء والبحث بعد ذلك عن بيت لوضعها فيه. وتجاوزوا كلَّ ما هو مطلوب من أولويات البناء الروحي إلى التقديم للفكر على ما عداه في خليط من المناهج التى ينتج عنها إسقاط كثير من الأحاديث الصحيحة ووضعها في موضع الشكّ لعدم مجاراتها العقل كعذاب القبر مثلًا. وكان للحركة التي سمَّت نفسها الحركة الأم نصيب الأسد من الجمع بين الأولويات من دون ترتيب وتبويب بل هي قالت بأنها تريد العقيدة والعبادة والتصوُّف والسياسة والجهاد والمشاريع الخيرية وحتى المشاركة في الحكم والمقاعد النيابية، وذلك كله وفق منهج يسير بأصحابه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من دون ترتيب الأولويات وتمييزها في حياة الأفراد والجماعات. ووصل الأمر بكلِّ من ذكرنا من الجماعات إلى حائط مسدود، ولا يعني ذلك أبدًا أنها سيئة النية في دعوتها، فكلُّنا بشر والخطأ من سمات بني آدم، ولكن الخطأ الأكبر والذي لا يُغتفر الإصرار على أن كلّ واحد على حق فيما وضعه من أولويات في دعوته ومنهجه وكأنه يُوْحى إليه أو كأنه في موضع العصمة.
إنّ المطلوب أولًا هو النقد الذاتي والرجوع إلى ترتيب الأولويات حسب منهج السيرة النبوية لأنها أساس وصول الإسلام يومًا ما إلى حكم مشارق الأرض ومغاربها، مع سيرة الخلفاء الراشدين من بعدها مع تجاوز كلِّ ما طرأ من فتن وحروب داخلية نالت من وحدة الأمّة وهيبتها. ودليلُنا في ذلك ما ورد عن الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صَلُح به أوَّلها"، مع الجمع بين ما هو مهم وما هو أهم. والله من وراء القصد، والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
غزّة العزّة.. مَعلَم وشاهد حضاري للأمّة
ترتيب الأولويات.. وأثرها في تحقيق الذات!
لم يصبر النَّتِن ياهو
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثالث
رمضان والاغتنام الحقيقيّ لمَواسم الخير