د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثالث

إذا كان مطلوبُ القرآن الكريم إيجاد إنسان التزكية الذي تحدّدت صورته في المؤمن العامل العملَ الصالح أو "أَحۡسَن عَمَلࣰا"، فلا بُدَّ أن يأتيَ السؤال المهم: كيف يعمل على تحقيق ذلك؟ أو ما هي تلك الطرق والمسالك أو الوسائل التي اعتمدها لإخراج هذا الإنسان المجسِّد لقيمه والمحقق لمقاصده العليا الحاكمة من توحيد وتزكية وعمران في الأرض؟.
وقبل الإجابة لا بُدَّ أن نضع فكرتين أساسين متكاملتين في هذا السياق المتعلِّق بمعرفة منهج التزكية الإنسانية في القرآن:
أولا: إنّنا نتحدث عن التزكية القرآنية باعتبارها عملية إلهية المصدر، وهو هذا الدستور الإلهي (القرآن)، وهي عملية "محكمة الإحكام كله،كاملة في جميع جوانبها، وقد قال الله تعالى- فيما بعد- عن هذا الدستور: ﴿كِتَـٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ خَبِیرٍ﴾ [هود:١]، وقال تعالى: ﴿لَّا یَأۡتِیهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِیلࣱ مِّنۡ حَكِیمٍ حَمِیدࣲ﴾ [فصلت:٤٢]، والتربية التامة، تشتمل على جانب العقيدة، وجانب الأخلاق، وجانب التشريع. ولقد نزل الدستور الإلهي على التوالي، مُبيِّنًا لكلِّ هذه الجوانب مُفصِّلًا لها" [عبد الحليم محمود، الرسول ﷺ، ط٢، ١٩٧٥م، ص٦٩-٧٠].
والله عزَّ وجلَّ هو خالق هذا الإنسان المزكّى، محيطٌ علمًا به، وبالتالي فإن هذه التزكية والتربية "ليست من كائن لا صلة له بالمخلوق، وإنما هي تربية الخالق نفسه الذي أحاط بدقائق الخلق وعرف ما تحتاج إليه مخلوقاته، وعرف الضار والنافع وعرف الخير والشر، فتربيته إذن قيادةٌ على علم وهداية، على بصيرة، وهي من أجل ذلك كله "تربية خالدة" لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، لأن الإنسان، هو الإنسان أينما وجد وأينما كان، لم يتبدل خلقًا بخلق، ولا تركيبًا بتركيب" [محمود، الرسول ﷺ، ص٧٠]
ثانيًا: أننا نتحدث عن تزكية الإنسان المسلم، التي يجب أن تصدر من القرآن وخطابه المتجه إليه في كينونته الكاملة عقلًا ووجدانًا وسلوكًا، "ولا يمكن لأي نوع من أنواع الخطاب الأخرى التي تمَّت صياغاتها قديمًا أو حديثًا في أمريكا وأوربا وروسيا والصين وسواها أن تشكِّل منظومة دوافع الفاعلية لدى هذا الإنسان المسلم، لعجزها عن ملامسة خصائصه الذاتية وذلك قدره" [العلواني، أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها، ص ٤٦].
ذلك لأن القرآن الكريم المكنون هو كلمة الله العليا، التي "إذا لامست الفطرة الإنسانيَّة فإنَّها تحدث تغييرًا عجيبًا في كينونة الإنسان وتعيد صياغة شخصيّته عقلًا ونفسًا، وتغيّر الدنيا من حوله. ولن تلامس كلمة القرآن الفطرة الإنسانيَّة للإنسان المعاصر إلّا إذا استيقن الإنسان أنَّه مخاطب بالقرآن العزيز، بل يجب أن يحمل نفسه على الشعور بأنَّه -وحده- المسؤول عن حمل هذا الكتاب وتلاوته على البشريَّة وتعليمها إيَّاه، وتزكيتها به"[العلواني، نحو بناء مشروع إحياء للأمة المسلمة]
والإنسان المسلم المعاصر هو إنسان يؤمن بالله ويوحده، لكن إيمانه غير فاعل اجتماعيًا بالشكل المطلوب. إنه الإنسان الذي خلف إنسان الحضارة الإسلامية، الذي تربى في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والفلسفي والاجتماعي والسياسي. إنه "إنسان ما بعد الموحدين" كما سماه مالك بن نبي؛ الذي يعد العنصر الجوهري فيما يضم العالم الإسلامي اليوم من مشكلات منذ سقوط حضارته. فنحن ندين له بكل مواريثنا الاجتماعية وبأسلوب حياتنا ونقائصنا وخياناتنا وبكل أمراضنا التي نعيشها ونعانيها إلى اليوم. ويعتبر الاستعمار من أهم ما عرفه إنسان ما بعد الموحدين هذا، والذي يعد من الوجهة التاريخية نكسة في التاريخ الإنساني والقاصمة للظهر، الذي تعود أصوله إلى المدنية الرومانية التي وضعت طابعها الاستعماري في سجل التاريخ. وكان للاستعمار أثر مدمر ومخرب للإنسان في جميع جوانبه.[يراجع مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي وشروط النهضة].
وإنسان ما بعد الموحدين هذا، لا يحتاج إلى العقيدة بذاتها، بقدر ما هو بحاجة إلى أن تُرَدَّ إليها فاعليتها وقوتها الإيجابية وآثارها الاجتماعية. فهو كما يقول كاتبنا: "لم يتخل مطلقًا عن عقيدته، فلقد ظلَّ مؤمنًا، وبعبارة أدقَّ ظل مؤمنًا متدينًا، ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد متحلل من صلاته بوسطه الاجتماعي. وعليه ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نردَّ إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة: إنَّ مشكلتنا ليست في أن (نبرهن) للمسلم على وجود الله، بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده، ونملأ به نفسه باعتباره مصدرًا للطاقة" [وجهة العالم الإسلامي، ص ٥٤].
بتعبير آخر، الحاجة في الأمّة مُلِحَّة إلى إعادة الإنسان إلى نطاق الفعالية، يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ أَحَدُهُمَاۤ أَبۡكَمُ لَا یَقۡدِرُ عَلَىٰ شَیۡءࣲ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَیۡنَمَا یُوَجِّههُّ لَا یَأۡتِ بِخَیۡرٍ هَلۡ یَسۡتَوِی هُوَ وَمَن یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾ [النحل:٧٦]. إنّ هذه الآية تنبِّهنا إلى مفهومين مهمَّين وهما: الفعالية واللافعالية، و"كلمة 'الكل' هي الكلمة القرآنية المقابلة لمصطلح اللافعالية، بل كلمة القرآن أدلّ على هذا المعنى حيث إن كلمة 'الكل' لا تدلّ على اللافعالية فحسب، بل تدلّ على أنّه عبء على من يتولّاه سواء كان فردًا أو مجتمعًا. كما وأنّ كلمة 'العدل' في القرآن تقابل مصطلح الفعالية بشكل أدق، لأنّ الفعالية لا تشترط دائمًا أن تكون فيما ينفع، بل قد يكون المرء فعّالًا فيما يضر، أمّا كلمة 'العدل' ففعاليته في الحق دائمًا" [جودت سعيد، الإنسان كلًا وعدلًا، ط ١٩٩٣، ص١٣-١٤].
وحاجة الأمّة هذه لن توفيها لها وتحقِّقها إلّا العملية القرآنية المسمّاة "التزكية"، التي سنتخذ لها مسارين اثنين: الفردي والجماعي، وذلك فيما يأتي من المقالات بتوفيق الله تعالى وعونه.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثالث
رمضان والاغتنام الحقيقيّ لمَواسم الخير
تجارة شهر الصيام.. بين الربح والخذلان!
رمضانُ حياة
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثاني