تجارة شهر الصيام.. بين الربح والخذلان!

عندما ذكر الله تعالى آيات التجارة الرابحة في كتابه العزيز كان منها ما هو متعلِّق بالإيمان والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وذلك في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ (10) تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (11)} [الصفّ]. ومن التجارة الرابحة أيضًا تلاوة كتاب الله وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله بالسرِّ والعلانية، وذلك في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر29]. فالشاهد في الآية دوام هذه التجارة وعدم بوارها أي انقطاع خيرها في الدنيا والآخرة.
وبناء على ما تقدَّم ذكره يمكننا الولوج إلى تجارة شهر رمضان شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن وحفظ اللسان ومراقبة الرحمن في السرِّ قبل الإعلان. وما حقيقة هذه التجارة الرابحة؟ وكيف يمكننا أن نستثمرها أحسن استثمار في ظلِّ ما ميَّز الله به شهره الكريم وجعل الأجر فيه مضاعف وعظيم؟ فالفريضة فيه سبعون فيما سواه، والتطوُّع كمن أدّى فريضة، وفيه الصدقة التي كان رسول الله أجود الناس فيها وكان أجود ما يكون في رمضان. كما جاء في الحديث الشريف: " إن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ". وفي رمضان الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن كلام الرحمن، يجري على اللسان، ويختم فيه الصائم ختمة تِلْوَ الختمة راجيًا القبول من الحنّان المنّان.
أمّا قولنا عن حقيقة التجارة الرابحة والتي ذكرنا مشاهد لها في كثير من الطاعات فنقول أوّلًا إنّ العبد الصالح الذي يخشى الله ويتَّقيه لا بُدَّ له من أن يكون تاجرًا مُجيدًا لتجارته الرابحة. فلا يغفل عمّا يُعرَض عليه وما يُطلَب منه في زحمة البيع والشراء وكأنه في سوق مفتوح مُشرَّع الأبواب فيه من كل ما هبَّ ودبَّ من العروض، فلا يقف أمام ذلك كأنه مخبول عاجز وكسول، بل لا بُدَّ من المبادرة والتعجيل بالوصول إلى حيث الذرى والقِمَم من المراتب العلِيَّة في الطاعات وفعل الخيرات وترك المنكرات. ولمّا جعل الله تعالى لشهر رمضان خصوصيّة بأن له في الأجر والجزاء مقابل كل الأعمال التي هي للعبد، وذلك في قوله تعالى في الحديث القدسي: "يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ".
إنّ هذه الخصوصية في شهر رمضان تعني الكثير من الدرجات للعبد في تجارته الرابحة تلك، فلا يفسدها بما يفسد فيه كلُّ صاحب صنعة صنعته فالصيام لا بُدَّ أن يجتمع فيه صوم الظاهر والباطن عند صاحبه وإلّا كان وكما جاء في الحديث الصحيح: "كَم من صائمٍ ليسَ لهُ من صيامِهِ إلَّا الظَّمَأُ، وَكَم من قائمٍ ليسَ لهُ من قيامِهِ إلَّا السَّهر"ُ. فأمّا صوم الظاهر فهو الصوم المعتاد بالامتناع عن المفطرات، وأمّا صوم الباطن فهو أبعد في ذلك عمّا هو ظاهر، فهو المراقبة والمحاسبة، وهو عدم قول الزور والعمل به كما جاء في الحديث الصحيح: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ". إذًا للصوم غايات ومقاصد ينبغي الأخذ بها وعدم الاقتصار على ما يُسمَّى التقليد والتعوُّد على كلِّ ما يأتي من قديم أو جديد بلا تقدُّم ولا تجديد. والرتابة فيه تقتل روحه ولا تبعث فيه الأمل وتجعله هرمًا وهو ما زال في المهد وليدًا. ونعني بذلك كلّه ألّا يأتيَ علينا رمضان ونَعُدّ أيّامه وننتظر غياب شمس نهاره لنقيم الولائم وننحر الخرفان وننتظر الهدايا والغنائم، بلا إحساس بمسؤولية المسلم تجاه أخيه المسلم في المحن والشدائد والساعات الحالكات السواد من النوائب والقواصم. فأنت تصوم ليذكِّرَك صومُك بمَن هو أخ لك في الإسلام وهو محروم من كسرة الخبز، وينام في البرد بلا سقف يأويه، ولا يجد لأطفاله في بيته معين بعد الله أو عاصم.
إنّ تجارة رمضان رابحة ربحًا لا خسارة فيها في العبادات والقربات والصدقات والصلات وتكثير الحسنات بكلّ صنائع المعروف التي تقي مصارع السوء. فلا بُدَّ أن نبحثَ عن نوع هذه التجارة. إن كانت من بضاعة حرير لا زيفَ فيه ولا تزوير ولا يمسُّه في قماشه المخبوء على الرفوف خدش ولا حرق، وإلّا كان البيع فيه نوع من الغش يستحقُّ صاحبه فيه ذمًّا وزجرًا. ولا بُدَّ لصاحب التجارة الرابحة في شهر الصيام أن يشعرَ ـ إن كان غنيًّا ـ بأخيه ـ إن كان ذا قربى من الأرحام أو كان أخًا في الإسلام ـ فلا يبخل عليه بالطعام والشراب والكساء والدواء ويحقِّق له ما تقرُّ به عينه وتسكن له نفسه. فما قيمة أن تصوم النهار وتقوم الليل وأنت فاقد أحاسيس المشاركة لمن هم إخوانك ولهم عليك حقُّ السؤال والعون وعدم الاقلال؟ حتى تُحقِّق من تجارتك ربحًا لا ينقطع خيرُه ويبقى أثرُه ولا يُمحى ذكرُه ولا ينسى الناس لصاحبه من طيب القول بحقِّه شكرَه.
إنّ تجارة رمضان رابحة، ومَن يعرف التعامل معها فلا يجد لبضاعته الإيمانية إلّا القبول، لأنه يعرضها بين يدي الله والرسول، ولا خسارة فيها لأنها من نوع التجارة التي لا تبور، فلا بُدَّ من حُسْن التقديم فيها حتى يذوق فيها مَن عرف صنفها، ويغترف من رحيق شهدها، ويدخل بها أبواب الجنة في طولها وعرضها.
جعل الله لنا ولكم من خير رمضان ما فيه كلّ جنيه، ومن الحصاد منه أوفر وأثمر زرعه. والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
تجارة شهر الصيام.. بين الربح والخذلان!
رمضانُ حياة
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثاني
وسائل الإفساد والأجندة الخبيثة
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الأول