د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثاني

تقرَّر أنّ الإنسان الذي يريده القرآن الكريم هو 'إنسان التزكية'؛ إذ لا بُدّ من تزكية نفسه وتطهيرها، ليسموَ ويستأهل أن يكون خليفة الله في الأرض، ليؤدّيَ مهامه على الوجه الصحيح المُرْضي للخالق سبحانه. بدونها لا يَصلُحُ ولا يُصلِحُ، بل يَضِلّ ويُضِل. فمن هو هذا الإنسان؟
تبدأ الإجابة بمعرفة وفهم معنى تزكية الإنسان في القرآن وصورة ذلك. أمّا معناها فيمكن القول أنَّها تلك العملية التربوية القرآنية الشاملة للإنسان بكل أبعاده، ليحقق توحيد الله تعالى بكلِّ معانيه وامتداداته في الحياة، إعدادًا له ليحسن القيام بالعمران كما يرضى عزَّ وجل، وفاءً بمهمته الاستخلافية في الأرض. بمعنى أنّها عملية وسيطة بين التوحيد والعمران؛ فمن جهة هي استمداد من التوحيد وقيمه ومقتضياته عقديًّا وسلوكيًّا، وتشبُّع برؤاه ومنهجيته في الحياة، ومن جهة أخرى هي تأهيلٌ للعمران لإنفاذ بنود عهد الاستخلاف المنعقد بين الخالق والإنسان في شتّى ميادين الإعمار في الأرض، حتى تهتدي الحياة بمختلف مجالاتها بهدى الله، ليحقِّق الإنسان الحياة الطيبة. فتتحقَّق غاية الحقّ من الخلق: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦].
وها هو د.النجار يُعرِّف التزكية أنّها بمثابة الخير العملي الذي يثمره الإيمان بالله، وهي 'تعبير قرآني يستجمع معاني النموّ والخيرية معًا، ولذلك قيل في معنى تزكية النفس: 'إنّه تنميتها بالخيرات والبركات'، وعلى هذا المعنى فإنّنا نقصد بتزكية الفرد أنّ الإيمان بالله تعالى من شأنه أنْ يزكّي الإنسان من حيث هو فرد، أي ينمّي فيه طاقات الخير والنجاعة، ويطهِّره من شوائب الشرّ والكلالة، بما يجعله في حياته على درجة عالية من الاقتدار على تحقيق المصلحة التي بها تكون سعادته'.
وعلى هذا، يمكن الخلوص إلى أنَّ تحقُّق تزكية الإنسان تتحدَّد صورته في إنسان متشبِّع بالتوحيد وحقائق الإيمان، الذي يعمل العمل الصالح ويتقنه، لأنّه هو علّة الخلق، ومادّة الابتلاء والاختبار في الدنيا، ومقياس النجاة في الآخرة، لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا﴾[هود:٧]، وقوله:﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ﴾ [الملك:٢]؛ إذ يذكِّر سبحانه عبادَه بأنّه خلق لهم ما خلق ابتلاءً؛ بمعنى أنّهم مدعوّون إلى أنْ يحسِنوا العمل ويحسِنوا التصرُّف فيما آتاهم الله، وأن يستخدموا ذلك في الخير والإحسان والإصلاح والعمران، في سبيل تحقيق حياتهم الطيبة، وسعادتهم ورضى ربهم.
من هنا، نعتبر أنّ الإيمان والعمل الصالح أو 'أحسنُ عملًا'، هما ركيزتا بناء شخصية 'إنسان التزكية' الذي يريده القرآن، الذي لطالما قرن بينهما في تعبيره المتكرِّر: ﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾؛ كصفتين متكاملتين لا ينفصلان ولا غنى عنهما معًا في سعي الإنسان ليحقِّق تساميه وكماله.
أمّا 'الإيمان' فهو الأصل الأوّل الذي يحقّق به الإنسان كمال قوّته العلمية في سُلَّم كماله كما يذكر ابن القيم. إنّه قضيَّته الأُولى في الوجود، لا معنى لحياته الفردية بدونه، ولا سعادة بغيره؛ فهو ليس أمرًا هامشيًّا في الوجود، يمكن الاستخفاف به، بل هو أعظم شأن يتعلَّق به مصير الإنسان؛ إنّه سعادة الأبد أو شقوته، وإنه لَجَنَّةٌ أبدًا أو لَنارٌ أبدًا. ولذا يُعَدُّ أوّل شروط النجاة من الخُسر: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ* إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ* إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ﴾ [العصر:١-٣]. إنّه في حقيقته كما وصف قطب: 'اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صَدَر عنه الوجود'. حاله بغير إيمان كريشة في مهبّ الريح؛ لا يعرف استقرارًا ولا سكينةً، ولا يعلم حقيقة نفسه، ولا حِكمة وجوده، ولا غاية حياته، ولا سبب موته بعد حين! بل قلقًا وحيرةً وتيهًا وشقاءً ومعيشةً ضنكًا: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ﴾ [طه:١٢٤]. والمجتمع بلا إيمان فيحكمه قانون الغاب، حيث الغلبة للأقوى، لا للأتقى، مجتمع تعاسة وشقاء، وإنْ زخر بكلّ وسائل الرفاهية وجميع أسباب النعيم، لا تتجاوز غايات أهله شهواتهم المادية؛ لأنّ ذلك مبلغهم من العلم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم:٧].
وهكذا، يظلّ الإيمان -كما يصف قطب- هو'أصل الحياة الكبير، الذي ينبثق منه كلّ فرع من فروع الخير، وتتعلّق به كلّ ثمرة من ثماره، وهو المحور الذي تشدّ إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة، وهو المنهج الذي يضمّ شتات الأعمال، ويردّها إلى نظامٍ تتناسق معه وتتعاون، وتنسلك في طريق واحد، وفي حركة واحدة، لها دافع معلوم، ولها هدف مرسوم'.
ولا يكتمل إلا بقرينهِ 'العمل الصالح' الذي يُظهره، ويحقّق به الإنسان كماله العملي، ثاني مراتب كماله في نفسه والإحسان إليها كما ذكر ابن القيم. وقد عرَّف الله تعالى المؤمنين بالكمالين الإيماني والعملي لما قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:١٥]؛ فالإيمان الصادق فضلًا عن كونه تصديقًا قلبيًّا ثابتًا لا شكَّ فيه، لا بُدَّ أنْ ينبثقَ منه العمل الصالح، و'القلب متى تذوّق حلاوة هذا الإيمان واطمأنّ إليه وثبت عليه، لا بُدَّ مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب، في واقع الحياة، في دنيا الناس، يريد أن يوحّد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة، ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حِسّه، والصورة الواقعية مِن حوله؛ لأنّ هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كلّ لحظة… فإذا لم تتحقّق تلك المشاعر في القلب، ولم تتحقّق آثارها في واقع الحياة، فالإيمان لا يتحقّق، والصدق في العقيدة وفي ادّعائها لا يكون'. ما معناه أنّ مفهوم العمل الصالح شاملٌ جميعَ وجوه سلوك الإنسان، وجميع فعالياته في مجالات الحياة كلها، ذلك أن قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ جامع لأشتات الأعمال الإنسانية الحسنة، فيمثّل -كما عبر الكيلاني- الترجمة العملية والتطبيق الأكمل للعلاقات التي حدّدتها فلسفة التربية الإسلامية بين الإنسان وخالقه، والكون والحياة، والإنسان والآخرة.
خلاصة القول إذًا أنّ الصورة القرآنية لـ'إنسان التزكية' صورة إنسانٍ مؤمنٍ عاملٍ العملَ الصالح أو'أَحۡسَن عَمَلࣰا' الذي يحتلّ مكانته عند الله؛ 'الذي يمتلك إرادته، ويمتلك إحساسًا عمليًّا. وبعبارة أخرى، هو الإنسان الذي يشكِّل نفسه ويبني نفسه طبقًا للدافع الإلهي لينال بذلك المكانة الإلهية السامية'. ويمكن عدُّ هذه الصورة هي المقياس في نجاح عملية تزكية الإنسان وتربيته وإخراجه كما يحبّ الله ويرضى.
المراجع:
- النجار، الإيمان والعمران، مجلة الفكر الإسلامي المعاصر، ص٤٤.
- الكيلاني، مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح، كتاب الأمة، ص٤١-٤٢.
- ابن القيم، التبيان في أقسام القرآن، مجمع الفقه الإسلامي، ص136.
- الفراهي، نظام القرآن، ص399.
- قطب، في ظلال القرآن، ٣٣٤٦-٣٣٤٧ و3965. |- يراجع القرضاوي، الإيمان والحياة، مؤسسة الرسالة، ط4، ص5-٦.
- حسن صعب، الإسلام والإنسان، ص89 و ٩٥. |- وحيد الدين خان، الإنسان القرآني، ط١، دار الصحوة للنشر، ص١٥.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثاني
وسائل الإفساد والأجندة الخبيثة
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الأول
الثورة البيضاء.. بلا سيف ولا دم مهراق!
قصّة حياة قرآنيّة