رمضان والاغتنام الحقيقيّ لمَواسم الخير

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
بينما نحن في انتظار رمضان إذ دخلَت أيّامه مُتَسارعة، وَكأنّها في سباق معنا ومع الزمن، فلا يبدأ نهاره حتّى ينتهي، وَلا يَدخل ليله إلاّ لينقضي.. والناس بين مُتفكّر بدروسه وعبره، وبين مسارع إلى اغتنام لياليه وأيّامه، ثمّ يصحونَ على أنفسهم ليَجدوها على أبواب وداعه بعد استقباله.. وهكذا كلّ عام.. ومع ذلك فلنستفيد من مواسم الخير حقّ الاستفادة لا بدّ لنا من محاولة الخروج عن نمط التفكير التقليديّ، الذي يجعل استفادتنا من هذا الشهر المُبارك سطحيّة محدودة، تقوم على مجرّد الإكثار من الأعمال دون التركيز على النوعيّة.. ولا يتحقّق لنا ذلك إلاّ بشيْء من عمق التفكير والفَهم لمَا وراء ما اعتدناه من العمل.. فالأعمال الظاهِرة تستند على ما وراءها من الأفكار والمَعاني والحقائق، وهُوَ ما أسمّيه: (الأركان المَعنويّة للصيام)، التي نكتشفها مِن مجموع النصوص الشرعيّة، التي تتحدّثُ عنه، وترغّب فيه، وأجدها بالتأمّل تعود إلى ثَلاثَة أركان:
• الاحتساب لله تعالى وتجدِيد الإيمان.
• والصبر والكَفّ عن المَعاصي وَالسيّئَات.
• وتحرّر النفس والتغيير في السلوك والعادات.
فالاحتساب وتجدِيد الإيمان مأخوذ من قول النبيّ ﷺ وتأكيده: فيما رواه عَنْه أَبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنه، قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ ومسلم. وعَنْه رضي اللَّهُ عَنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى مِنْ ذَنْبِهِ».
قال العلماء: والصِّيَامُ فِيهِ مَعْنًى لَمْ نَجِدْهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الأَعمال الَّتِي يُتعُبَّدُ النَّاسُ بِهَا، فالصَّلَاةُ يَقْدِرُ الإِنسَانُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا غَيْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُرِي النَّاسَ صَلَاتَهُ، وَيُخْفِي عَنْهُمْ عَيْبَهُ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة وَالحَجّ وَأمّا الصِّيَامُ فهو بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرَاهُ مِنْهُ كَمَا يَرَى تِلْكَ الْأَعمال مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ مِنْهُ وَوُقُوفِهِ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَكَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ هُوَ الَّذِي لَهُ، وَمَا يَكُونُ هُوَ يَعْلَمُهُ، ثُمَّ يَعْلَمُهُ خَلْقُهُ لا يكون له خالصاً على أتمّ وجه، وهذه حقيقة الاحتساب..
فإذا تحقّقَت هذه الأَركان المَعنويَّة على وَجْهها الأتمّ الأحسَن فلا تسل عَن ثمراتِ الصوم الطيّبَة وبرَكاته، ومَا أكثرها وأعظمها.!
وأمّا الصبر والكَفّ عن المَعاصي وَالسيّئَات، ففعل الخير يقتضي بالبداهة الكفَّ عن الشرّ، لأنّ من فعل الخير ولم يكفَّ عن الشرّ، فَكأنّه لَم يفعلْ شيئاً، لأنّ سيّئاته قَدْ أفسدت ما فَعل من الحسنات، وهذا وللأسف حال كثير منَ الناس: وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: « مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به، فليسَ لله حاجَةٌ أن يَدَعَ طعامَه وشرابه » روَاه أبو داود (4/43)، وإسناده صحيح. وأمّا تحرّر النفس والتغيير في العادات والسلوك فهذا هو الجهاد الحقيقيّ في رَمَضَانَ، وروح الصيام ومقصده، وأهمّ حقائق ذلك ومظاهره وثمراته تتجلّى فيما يلي:
• اجتماع شمل المُؤمن على الله تعالى: بإخراج النفس من ظلمات الغفلة والإعراض إلى نور الهداية والإقبال..
• انتصار الآخرة عَلَى الدنيا..
• نَيل ما كتب الله تعَالَى لعباده من النفحات والبركات..
• استدراك المُؤمن تقصيره وما فاته من الخير..
• اجتماع شمل المُؤمن بأهلهِ وإخوانه على ما يرضي الله تعالى..
• الاجتهاد في العبادة للَّه تعالى، والإكثار مِن النوافل..
• وأعظم المَغانم والثمرات، وأعلاها وأغلاها: تعلّق القلوب بالعتق من النار، الذي يتكرّرُ الحديْث عنه، والدعاء به في رَمضان..
إنّ لسان حال رمضان يقول للناس: "أما آن لهذه العقول والقلوب أنْ تتحرّرَ من قيود العبوديّة لغير الله.؟! وذلّ الأهواء والشهوات، والتبعيّة العمياء، للمناهج الضالّة، عن صراط الله المستقيم.. أما آن لهذه الأرواح أنْ يُنتصَفَ لها.؟! فتنالَ أرزاقَها منْ يد العناية الإلهيّة، لتسعدَ بإشراقها وصفائها، وتنعَمَ، وتنعمَ الأجساد بها ومعَها.! ويَنعم بها المجتمع كلّه!.
إنّ الإسلام لا يتعامل مع الإنسان كيانًا مجزّأً، يتعارضُ كلّ جزء فيه مع الجزء الآخر ويتناقض، ممّا ينتج عنه شقاء الإنسان واضطراب حياته، وإنّما ينظر إليهِ كيانًا موحّدًا، تمتزج فيه مَطالب الجسد مع أشواق الروح، في تناسق وانسجام، وتتجلّى فيه عَظمة الخالق وإبداعه، بصورة لم يعرفها الناس في دين من الأديان، ولم يألفوها.. فكما أنّ للجسد روحًا سارية فيه، بها حياته وقوامه، فكذلك للمجتمع الإنْسانيّ روح تسري فيه، فتميّزه عمّا سواه من المُجتمعات التي تتحكّم بها المَادّيّة، وعندما تصلح روح الفرد وتسمو، تسري عدوى ذلك إلى المجتمع، فتكون روح المُجتمع من روح الأفراد، وروح الأفراد متناغمة مع الروْح السارية في المُجتمع، متلائمة معها.. وتلك حقيقة واقعيّة مشهودة، لوْ لاحظها أيّ إنسَان بنفسه لرآها تحكم الأفراد والمُجتمعات الإنْسانيّة على اختلاف أديانها وأعراقها، وتوجّهاتها وقيمها، وثقافاتها ومستواها الحضاريّ..
وبناء على هذه الحقيقة، فإنّ الصوم في حقيقته هو تلك الروح التهذيبيّة الربّانيّة، التي أراد لها الإسلام أن تكون سارية في الفَردِ والمُجتمع سائدة غالبة، لتسمو بالإنسان فردًا ومجتمعًا، في عالم من الطهر والسعادة، وتنأى بهما عَمّا يتعارض مع قيم الحقّ، وإنسانيّة الإنسان..
وكلّما خفتت هذه الروح التهذيبيّة جاء رمضان ليبعثها من جديد، ويبثّ فيها دمًا جديدًا، وحيَويّة جديدة، لتعود إلى اتّزانها، وتقْوى في معركتها الدائبة معَ قوى المَادّيّة المُضادّة لها، التي لا تَعْترفُ بتلك الروح، وتسعى لفرض هيمَنَة الجسد، وحاجاته ومطالبه..
فماذا يعني انتصار الروح.؟ إنّ انتصار الروح يعني أن تنالَ الروح غذَاءها ودواءها، على حَسَب المَنهج الذي رسمه لها الإسلام، وأن ينال الجسد غذَاءه ودواءه كذلك.. وذلك بجملة من الأعمال الصالحة وأبواب الخير المُفتّحة، التي يحثّ الإسلام عليها.. فعلًا كانت أو تركًا..
وأخيرًا: ما أحسن وصف أحمد شوقي في كتابه: "أسواق الذهب (1/84)" في بيانِ أهمّ حِكمِ الصوم وَثمراته إذ يقول: «الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكلّ فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب، وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة، ويحضّ على الصدقة، يكسر الكبر، ويُعلّم الصبر، ويسُنّ خلال البرّ، حتّى إذا جاع من ألف الشبع، وحُرمَ المُترَفُ أسبابَ المُتع، عَرفَ الحرمانَ كيف يقع، والجوعَ كيف ألمُه إذا لذع».
اللهم تقبّل منّا الصلاة والصيَامَ والقيام، واجعلنا من عتقائك منَ النار، واجعلنا من عتقاء شَهر رمضان، وأدخلنا الجنّةَ من باب الريّان بسَلام. وصلِّ اللهم وسلّم وبَارك على عبدك ونبيِّك سيِّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
رمضان والاغتنام الحقيقيّ لمَواسم الخير
تجارة شهر الصيام.. بين الربح والخذلان!
رمضانُ حياة
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الثاني
وسائل الإفساد والأجندة الخبيثة