حكاية من التاريخ... فن إيذاء المحكومين
هناك دائما حول الحكام المستبدين، في كل زمان ومكان، نوع من الناس يجيدون فن تملق الحاكم، والتقرب إليه، على حساب الشعب. عرفناهم في الفترة الحديثة حول الرئيس المخلوع، والرئيس المقتول، والرئيس القاتل، والرئيس الهارب، والرئيس المحروق.... وغيرهم. ومع إن مراتبهم وألقابهم تنوعت واختلفت بحسب الظروف وبحسب الدور؛ فإن جوهر الدور الذي كانوا يقومون به واحد. ولم يكن أمثال هذه الطفيليات السياسية والإدارية من إنتاج العصر الحالي وحده بطبيعة الحال، ولم يكن من «إبداع» المنطقة العربية وحدها أيضا؛ وإنما هي ظاهرة ملازمة للحكم الفردي والاستبداد على امتداد التاريخ الإنساني .
بيد أن عصر سلاطين المماليك يقدم لنا رجلاً هو المثال النمطي الذي يجسد هذا النوع من الموظفين الذين يتفننون في إيذاء المحكومين تزلفًا وقربى لسادتهم من الحكام. وإذا كان السلطان في ذلك الزمان يمتلك السلطة بشكل فردي، فإنه لم يكن يملك ممارستها بشكل فردي. فقد كان عليه أن يستشير ويستفتي ويعتمد على النخبة في إدارة شئون البلاد في الداخل، ويستند إلى أرباب السيوف في حماية البلاد من أخطار الأعداء في الخارج. ومن ناحية أخرى، لم تكن مسئولية السلطان الداخلية متوغلة في تفاصيل حياة الناس اليومية كافة مثلما هو الحال الآن، فقد تركت شئون التعليم والصحة للأهالي ممثلين في طوائفهم وممولين من أوقافهم... ولكن تلك قصة أخرى.
نحن الآن في النصف الأول من القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، والسلطان الجالس على عرش السلطنة في مصر والشام هو السلطان محمد بن قلاوون الذي حكم ما يزيد على أربعين سنة، والرجل الذي نتحدث عنه هو شرف الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله الذي كان مسئولاً عن خزائن السلطان الخاصة (ناظر الخاص السلطاني). ولقب «النشو» الذي اشتهر به كان من اختيار ربيب نعمته الذي أنشأه ورقّاه في مناصب الدولة؛ وهو السلطان نفسه.
كانت حياة هذا الرجل قصة ملؤها اللؤم والظلم والأذى والخيانة، وكان أبوه من النصارى يعمل كاتباً في خدمة أحد أمراء المماليك. وكانت هذه المهنة وراثية في عائلته بحسب تقاليد ذلك الزمان وأعرافه؛ فلم تكن هناك مدارس أو جامعات متخصصة في الإدارة والمحاسبة والشئون المالية، أو غيرها من المهن والحرف. وكان هناك في تلك العصور نوع من وراثة التخصص، بحيث يتناقل الأبناء المهنة أو الحرفة عن الآباء جيلاً بعد جيل. ولم تكن عائلة "النشو" استثناءً في ذلك بطبيعة الحال، فقد ورث "النشو" مهنة أبيه وتنقل بين دواوين الأمراء يمارس هذه المهنة حتى وصل إلى ديوان ابن السلطان الناصر محمد بن قلاوون. وعندها أعلن اعتناقه الإسلام لكي يفتح الطريق أمامه للوصول إلى غايته.
الناظر الخاص
وكانت بداية صعود هذا الرجل الذي لا ينافسه في الشر والأذى أحد عندما أعلن إسلامه وصار يجلس مع السلطان ويحادثه في أمور الدولة ويكثر من الوقيعة في كبار موظفي الدولة. ونال حظوة في قلب السلطان الذي اشتهر بحبه للمال.
ويقول المؤرخ تقي الدين المقريزي إنه صار ناظر الخاص السلطاني، وكان صاحب هذه الوظيفة مسئولاً عن جمع الأموال للسلطان وتدبير الأموال اللازمة لمصروفاته ومصروفات المماليك السلطانية والدور السلطانية: "... وبلغ ما لم يبلغه أحد من الكتاب... وتقدم عند السلطان على كل أحد، وخدمه جميع أرباب الأقلام، وكان محضر سوء لم يشتهر عنه شيء من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمعه وزير في الدولة التركية... وقتل على يديه عدد من الولاة والكتاب...".
وبدأت دسائسه للإيقاع برجال الدولة، وسار بقطار الظلم حتى محطته النهائية التي شهدت موت "النشو" نفسه. وكان من فرط نفاقه وشدة دهائه ينتهز كل مناسبة لكي يتظاهر فيها بالولاء للسلطان على حساب الآخرين من رجال الدولة: ففي إحدى المناسبات ألزم الأمراء وكبار موظفي الدولة بإحضار الحرير والقماش المنسوج بخيوط الذهب ليتم فرشها في طريق السلطان. ولكن شهية الظلم المفتوحة لدى هذا الشيطان لم تقنع بكبار رجال الدولة وإنما تعدتها إلى عامة الناس الذين أخذ يصادر أموالهم في كل مكان. واستخدم الأساليب البشعة، كما كان يفرض على التجار شراء البضائع منه بأثمان تصل إلى عدة أضعاف ثمنها الحقيقي. "... وعمت مضرة النشو الناس جميعاً وانتمى إليه عدد من الأشرار، ونموا على الكافة من أهل الوجه القبلي والوجه البحري... ومن خبثه أنه دسّ الجواسيس من النسوة العجائز حتى يدلوه على من عنده الجواري المولدات لأنه كان يعرف ولع السلطان بهن..." واضطر الناس إلى إرسال جواريهن إلى حريم السلطان خوفاً من الأذى الذي كان يمكن أن ينالهم.
وزاد نفوذ النشو وظلمه عندما جعل السلطان يوظف اثنين من أخوته عند اثنين من كبار الأمراء وعين صهره في ديوان أمير ثالث، وزاد شره اتساعاً، فصادر أملاك عدد من كبار الأمراء وسجن بعضهم وقتل البعض الآخر. وعندما أراد نائب السلطان أن يبين للسلطان ظلم "النشو" وقبح سيرته، غضب منه السلطان وأبعده إلى الشام.
ويبدو أن "النشو" أراد أن يبدع في ظلمه وأن يتفوق على نفسه بعد أن ظن أن الدنيا قد دانت له، فاتهم والي دمياط بأنه قد أزال مبنى قديماً في منطقة عزبة البرج الحالية وزعم أن هذا الهدم قد تسبب في اتلاف الطلسمات التي كانت تحرس النيل من طغيان البحر عليه، وغلب ماء البحر فأتلف البساتين!! والغريب أن السلطان أمر بالقبض على الوالي وضربه ضرباً مبرحاً وغُرِم مبلغاً كبيراً من المال!!
ولم يتورع هذا الرجل عن تعذيب النساء، حتى الحوامل منهن، من أجل الحصول على المال؛ فقد عاقب زوجة واحد من الكبار الذي سجنه لكي تعترف بمكان المال حتى طرحت حملها. وكانت "للنشو" نساء عجائز جاسوسات في بيوت الكبار تنقلن له ما يدور فيها من أحاديث وغالبا ما كانت النتيجة وبالاً على هؤلاء الضحايا الذين كانت تصادر ممتلكاتهم وتتشرد عائلاتهم بعد السجن أو القتل.
خادم الشر
ومن عجائب سيرة الظلم الذي تجسد في ذلك الرجل الشرير، أن السلطان أراد أن يبني جامعاً لواحد من أمرائه واشترى عدة منازل في المكان برضى أصحابها، وأوكل إلى "النشو" مهمة إنهاء الصفقة، بيد أن الرجل أبى أن يفوت الفرصة لخدمة الشر والظلم، ويقدم قربانه من أموال الناس وراحتهم: فطلب أصحاب الأملاك وقال لهم: «الأرض للسلطان ولكم قيمة البناء»، ومارس عليهم ضغطاً رهيباً حتى باعوا بنصف الثمن.... وقد بني الجامع على كل حال!!
عبثاً حاول الناس ومعهم كبار الأمراء فتح عيني السلطان المضلَّل على مساوئ هذا الشيطان، وأرسلوا الرسائل بالحمام الزاجل ولكنه لم يصدق، وعبثاً حاول التجار التظلم من أذاه، ولكن السلطان لم يكن يريد أن يسمع؛ بل إنه كان يستغل الأزمات الاقتصادية الناتجة عن هبوط فيضان النيل وقلة الغلال والخبز في الأسواق ليتخلص من المسئولين حتى يخلو له الجو.. وحين حاولت زوجتا السلطان تنبيهه إلى فساد الرجل قال: «مسكين "النشو"، ما وجدت أحداً يحبه كونه ينصحني». لقد كان الناصر محمد مثل حصان أعمى يسوقه "النشو" إلى ظلم العباد وخراب البلاد. وظل "النشو" يمارس الفساد ويقترف الشر ويلحق الأذى بالناس تحت حماية السلطان الذي أعماه حب المال عن سوء الحال.
وشكا المماليك السلطانية (أي الحرس السلطاني الخاص) من تأخر كسوتهم، فطلب السلطان النشو وفرض عليه أن يعطيهم كسوتهم في اليوم التالي: ففتح "النشو" حوانيت التجار واستولى على ما بها. وكانت حالات المصادرة غير القانونية أو المبررة تتكرر كثيراً حسبما تشهد المصادر التاريخية لذلك العصر. ومن ثم، كان طبيعياً أن تجرى محاولة لاغتيال ذلك الشيطان. وأصيب بجروح خطيرة في ذراعه وجبينه ولكنه لم يرجع عن ظلمه؛ فانتهز الفرصة لإيذاء عدد من الناس وقتل البعض منهم. وعندما عرف أن الناس يجتمعون في الجامع الأزهر وجامع الحاكم وغيرهما للدعاء عليه أمر بقطع الوعظ في جميع مساجد العاصمة.
وفي يوم الاثنين الثاني من شهر صفر سنة 740 هجرية، انتهت أسطورة الشر، وكان لابد أن تنتهي. فالظلم مؤذن بالخراب، وهي حكمة التاريخ وسنّة الكون.
فقد أدى فساد "النشو" وظلمه إلى توقف التجارة، وكادت البضائع أن تختفي من الأسواق، وامتدت يد "النشو" الباطشة إلى فئات جديدة كانت لاتزال بعيدة عن أذاه حتى ذلك الحين. وتقول كتب التاريخ المعاصرة إن "النشو" كان يجتمع مع أخوته وصهره وأهل الثقة من حاشيته لابتكار المظالم الجديدة لتعذيب الناس بوسائل جهنمية غير مسبوقة. وفي الوقت نفسه وصلت رسائل تحمل كلاما مهيناً للسلطان على جناح الحمام الزاجل وتحذره من عاقبة الظلم حين لا ينفع الندم. وتطوع إثنان من أقرب الناس إلى السلطان للحديث معه في أمر "النشو"، وتمكنا من إقناعه بأن يحاول اختبار مدى صدق حديثهما بمداهمة بيوت "النشو" وهو محتجز بالقلعة. وتصرف السلطان بقدر من التردد وهو لا يصدق أن "النشو" قد مارس هذا الفساد كله وجمع هذه الأموال الطائلة.
وعندما شاع الخبر بأن السلطان قبض على "النشو" وأخوته وبطانته في القاهرة «... خرج الناس كأنهم جراد منتشر...» وأغلقت أسواق القاهرة والفسطاط، واجتمع الناس أمام القلعة بكل طوائفهم، وقد أشعلوا الشموع ونشروا الأعلام وهم يغنون ويهتفون.... وبدأ "النشو" تسديد فاتورة ظلمه وفساده؛ فتعرض لعذاب شديد حتى هلك تحت العقوبة وقتل أخوته تحت التعذيب أيضاً وصودرت الأموال التي نهبوها.... وبعده بوقت قصير مات السلطان مريضاً.
ترى هل تذكرنا هذه القصة بأحد من المعاصرين ؟ أظن أنها تذكرنا بكثيرين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة