كاتبة
... قبل أن تحاسَبوا!
النفس متقلبة متغيرة نزّاعة للشهوات، ميّالة للرغبات، كثيراً ما تَحول بين العبد وبين الطاعات. والمؤمن بالله واليوم الآخر الذي يعلم أن أيامه معدودة وأنفاسه محسوبة؛ تكون له وقفات مع نفسه يطّلع على عيوبها، ويحاسبها على جميع حركاتها وسَكَناتها، وخَطَراتها وخطواتها، وأعمالها وأقوالها وأفعالها، فيكبح جماحها ويصحح ما اعوجّ من سلوكها، ويتدارك ذلك بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية للسيئات.
والمحاسبة سِمة الصالحين، وطريق المتقين، ومركب العقلاء والصالحين. ومحاسبة العبد لنفسه مطلوبة شرعاً بل هي واجبة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18). ويقول تعالى في وصفه للمؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلة أو التقصير: {إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف: 201).
وقد عَظُمت مراعاة السلف الصالح لأنفاسهم ولحَظاتهم، ولم يغفلوا عن أنفسهم بل كانوا يحاسبونها ويذكِّرونها بما سيَِحلُّ بها يوم القيامة من نعيم أو عذاب، ثم يطالبونها بالأعمال الصالحة إن اختارت الجنة ونعيمها.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة: : 18). فمَن حاسب نفسه قبل أن يحاسَب خفَّ في القيامة حسابه، وحضّر للسؤال جوابه، وحَسُن متقَلَّبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسَراته، وطالت في القيامة وقَفاته، وقادته إلى الخِزي والمَقْت سيئاته». وفي ذلك يقول الحسن البصري رضي الله عنه: «إن المؤمن قَوّام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة».
ولا يكتفي المؤمن بمحاسبة نفسه ومراقبتها، بل يعاتبها على تقصيرها، ويلومها على استهتارها وغفلاتها، يذكِّرها بالله الذي لا تخفى عليه خافية، ويذكِّرها بالموت والحساب، والجزاء والعقاب، فإذا لم تقنع بالمعاتبة عاقبها على إهمالها؛ فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب نفسه ويحاسبها ويعاقبها ويقول لها: «بَخٍ بَخٍ، والله لتَتقين الله أو ليعذبنّك الله».. ويقول الحسن رضي الله عنه: «لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردتُ بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه».. أما الأحنف بن قيس فكان يحاسب نفسه ويذكِّرها بنار الآخرة وعذابها؛ فكان يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحسّ بالنار، ثم يقول لنفسه: يا حُنَيْف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟»... ويقول مالك بن دينار: «رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خَطَمها، ثم ألزمها كتابَ الله عز وجل فكان لها قائداً».
هؤلاء هم سلفنا وأسوتنا، قومٌ تيقظوا في أمورهم وعَقَلوا، وحاسبوا أنفسهم فما ضاعوا ولا غفلوا. فهلاّ جلست كل واحدة منا مع نفسها تحاسبها وتذكرها وتعاتبها وتعاقبها؟
البدار البدار يا أختاه، واعلمي أنّ كل نَفَس من أنفاس عمرك جوهرة نفيسة تشترين بها نعيم الآخرة. فلا تضيِّعيها في معصية الله لأن ذلك هو الخسران والهلاك يوم تنشر الصحائف في يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 30).
أختي المسلمة: حاسبي نفسك وافحصي أعمالك، وارصدي هفَواتك وأخطاءك، واعلمي أنه مأخوذ عليك في سمعك وبصرك، في لسانك وجوارحك؛ فالآجال مفتوحة والأعمال محفوظة ولكل زارع ما زرع.. اختلي بنفسك وحاسبيها كما يقول ميمون بن مهران رضي الله عنه: «لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح»...
اعملي لقبر لا يتسع إلا لعملك، ففيه ربحك أو خسارتك.. تذكري الحشر والمعاد.. تذكري أن في القيامة حسَرات، وفي الحشر زفرات، وعند الصراط عثرات، وعند الميزان عبَرات، والحسرة العظمى عند السيئات. فيا له من يوم ما أطوله، ومن حساب ما أثقله، ومن جزاءٍ ما أَجْزله، ومن عقابٍ ما أهوَله.
حاسبي نفسك وقولي لها: يا نفس أما آن لك أن تستعدي؟ يا نفسُ إن الموتَ موعدك، والقبر بيتك، والتراب فراشك، والدود أنيسك.. يا نفس أما لك عِبْرة بمن رحل؟ يا نفسُ ما أعظم جهلك! أمَا تعلمين أنك إلى الجنة أو إلى النار مصيرك؟ يا نفسُ إن تجرأت على معصية الله وتظنين أنّ الله لا يراك فما أعظم كفرك! وإن علمت أنه مطلّع عليك فما أشد وقاحتك وما أقلّ حياءك! يا نفسُ كفاك ما كان من عصيان، يا نفسُ اكتفي بالزاد وراقبي ربَّ العباد ودعي العناد واستعدّي ليوم المعاد وتذكري قولَ العزيز الجبار: {حتى إذا ما جاءوها شَهِد عليهم سَمْعُهم وأبصارُهم وجُلودُهم بما كانوا يعملون} (فُصِّلت: 20)
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة