أخي السعيد
في ذلك اليوم خرج المدعوون من الغرفة للتوجه حيث الغداء، وأخذ أخي سعيد يراقبهم عن كثب وهم يبحثون عن أحذيتهم التي جعلوها أمام باب الغرفة قبل دخولهم، هذا وجد فردة حذاء واحدة وآخر لم يجد ولا واحدة، والثالث وجد فردة في مكان بعيد عن توأمها.. وعرف أبي يومها أن أخي سعيداً هو صاحب هذا المقلب، فأحضره وحكم عليه أن يعيد الأحذية مكانها وسط ضحك الضيوف من الأهل والأقارب.
لم أكن أتخيل عندما كنا نلعب معاً ونجري ونضحك ونتشارك في تنفيذ المقالب التي تكون غالباً من إعداد وتخطيط أخي، ولم يكن أبي يعلم عندما يتخاصم معه بسبب ملابسه التي لا تعجب أحداً سواه، وشعره الطويل الذي لطالما تباهى به ولطالما طالبته والدتي بقَصِّه وتقصيره فيُجيبها قائلاً:
- ألم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يربّي شعره؟
- فتقول والدتي: ما شاء الله تبارك الله، وهل اقتديت بالرسول عليه السلام في كل شيء؟
لم نكن نعلم أو نتخيل أن سعيداً يمضي في طريق الشهادة.
رحمك الله يا سعيد. رحم الله رجولتك وبطولتك وإنسانيتك وشهامتك!
- قالت له والدتي: لا تخرج يا سعيد؛ الوضع جدُّ خطير.
- أجابها: دعيني يا أمي أخرج ولا تمنعيني، لا تحرميني من مساعدة الناس.
- قالت أمي: هناك من يساعد غيرك، لا تفجعنيٍ بك يا حبيبي، لن أحتمل أن يصيبك أي مكروه.
- قال: ماذا سيصيبني؟ الموت؟ هذا ليس مكروهاً يا أمي، بل هو الخير كله. الناس في حاجة إلى الشباب والرجال.. الناس في حاجة إلى الماء والخبز والطعام والدواء... الأطفال يتضوّرون جوعاً، والأمهات عاجزات عن الخروج لتأمين الطعام لهم، وآباؤهم في المعركة. لست شهماً ولا كريماً ولا رجلاً إن بقيتُ في البيت سجين الخوف، فاسمحي لي أرجوك أن أساعد في توزيع الخبز والطعام على الناس في الحي المجاور.
ونزل عند قدميها وقبّلهما، فرفعته أمي وهي تمسح دموعها، وقالت:
- اذهب بني، مكانك في الساحة، في ساحة المعركة، مكانك وسط الأبطال... ووالله لا يُرضيني أبداً أن أحرم الناس المساعدة ولا أحرمك الأجر، فاذهب وقد استودعتُك الله الذي لا تضيع ودائعه... اذهب وأنا في انتظارك يا حبيبي.
أمي، التي تمنعنا من فتح أي نافذة اتقاءً لخطر ضرب النار الذي نسمعه غير بعيد عنا، فتحت النافذة المطلّة على باب البناية تراقب أخي يسبقه حماسه وحنانه وبسالته وإحساسه بالمسؤولية... ثم أغلقتها عندما غاب عن ناظريها.
سألتُها: لماذا لم تسلِّمي على سعيد يا أمي؟
- قالت: أُطمئن نفسي أنه عائد.
سمعنا صوت ذلك الانفجار القويّ، فانخلعت قلوبنا من مكانها هلَعاً. جلسنا متجاورين نلتمس دفئاً أو أماناً... لكنّ أياً منهما مستحيل، فشدة البرودة لن يخففها إلا الوقود وهو مفقود، والأمان غير موجود وسط ضرب المدافع الثقيلة والطائرات والدبابات وإجرام الشبيحة.
في نهاية ذلك اليوم، وبعد انتظار طويل طويل... لم يعد أخي سعيد.
ووصلَنا خبر استشهاده بقذيفة لئيمة حاقدة هدفها السيارة التي يركبها، فاحترق واحترق معه الخبز والطعام، واحترق الكثيرون ممن كانوا ينتظرون المؤونة، لكن قلب أمي لم يحترق! قلب أمي ظلّ نَضِراً بالاستغفار والحمد والدعاء...
وصورة أخي سعيد ذلك الطفل المدلّل ثم المراهق المعترض الثائر، والشاب المرح الحنون الشهم المحب للخير، والشهيد الحي عند ربه ستظل في قلوبنا وعقولنا ودمائنا وهوائنا حتى نلتقي في جنة ربنا وقد شفع لنا سعيد حتى نبلغ السبعين.
سننتصر لك يا أخي السعيد وسنُزيل الظلم ونُبيد الظالمين انتصاراً للحق وثأراً لكلِّ المظلومين... فطِب نفساً، وموعدنا الجنة بإذن الله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة