الحملة الأمريكية: لنا أم علينا؟
-1- يقول الأصوليون في قواعدهم إن "الحكم على الشيء فرع عن تصوّره"، أي أننا لا نستطيع أن نصدر حكماً على أمر إلا بعد معرفته، فالتصور هو الأصل (المقدمة) والحكم هو الفرع (النتيجة). بتعبير آخر: الفهم يسبق الحكم، وما لم نفهم حقيقة موقف الولايات المتحدة من ثورتنا فلا فائدة من محاولة التفكير في موقفنا نحن من حملتها الجديدة على الإرهاب.
بفضل الله فإن ثوار سوريا يميزون (في جملتهم) بين العدو والصديق، وهم يعلمون أن أمريكا عدو لا صديق، وأنها كانت سبباً رئيسياً في بلائهم ومعاناتهم خلال نصف القرن الماضي، وأنها ما تزال سبباً رئيسياً في معاناتهم الحاضرة، ومن ثَمّ فإنهم لا يثقون بها ولا يأمُلون منها ومن مشروعاتها ومبادراتها أي خير.
-2-
تجيّشُ أمريكا اليوم الجيوشَ وتحشد الحلفاء زاعمةً أنها تريد نصرتنا ونجدتنا، نحن الذين لم نطلب منها يوماً نصرة ولا نجدة، ما طلبنا إلا أن تخلّي بيننا وبين عدونا، فأبت إلا أن تحجز بيننا وبينه وأن تحرمنا من امتلاك أدوات القتال والانتصار. كل ما أردناه هو أن لا تحاربنا من وراء ستار بحصار ثورتنا وحرماننا من السلاح، فلم تستجب، بل أصرّت على أن تكون على الدوام خصماً وشريكاً في العدوان بالحصار والحرمان.
إننا نقاتل عدونا بالسلاح منذ ثلاث سنين، وقد أنفقنا الملايين في شراء الأسلحة والذخائر، وإنّ من أهم الأسلحة التي نحتاج إليها الصواريخ المضادة للطائرات. إن بضع مئات منها فحسب كافيةٌ لتقليص خطر سلاح الطيران وللقضاء على كل ما يملكه نظام الاحتلال الأسدي من طيارات عمودية، ولو أننا امتلكناها من سنتين لاتّقينا براميل الموت التي دمّرت مدننا وفتكت بعشرات الآلاف من الأبرياء، فهل كنا عاجزين عن شرائها بما توفر لنا من المال؟
أبداً، بل كنا وما زلنا نملك ما يكفي لشراء الآلاف منها. لماذا لم نشترِها إذن؟ الجواب هو: الولايات المتحدة. لقد منعت تجّارَ السلاح من بيعنا تلك الأسلحة، وحرّمت على الدول التي ساعدتنا إمدادَنا بها، بل إن بعضها وصلنا فعلاً ذات يوم (من ليبيا) فصادرها الأمريكيون في تركيا ومنعوا دخولها إلى سوريا. ليست هذه توقعات وتخرصات، إنها حقائق يشهد عليها المئات من المجاهدين في سوريا، فاسألوهم إن كنتم لا تصدقون.
-3-
لم نطلب من أمريكا نصراً ولا دعماً ولا مالاً ولا سلاحاً، طلبنا فقط أن لا تُعين عدونا علينا بحرماننا من السلاح الضروري الذي نحتاج إليه للدفاع عن أنفسنا، عن أطفالنا ونسائنا وبيوتنا ومخابزنا ومساجدنا ومدارسنا، فأبت أن تفتح الطريق لهذا السلاح وأصرّت على حرماننا من حقنا المشروع في الدفاع عن النفس. إنها شريكة في الدم المهدور ومسؤولة مسؤولية مباشرة عن كل ما أصابنا من مصائب وآلام.
نعم، لا بد لنا أن نفهم قبل أن نحكم، وهذه هي القاعدة الأساسية في الفهم: أمريكا ليست صديقاً لنا بل هي عدو، ولا يهمها أن ننتصر، بل إنها حريصة على أن لا تنتصر ثورتنا وأن لا نحقق مصلحتنا، إنما هي حريصة على أن تنتصر هي في معركتها وأن تحقق مصالحها الخاصة.
-4-
لم تأتِ أمريكا لقتال داعش، لقد جاءت للحرب على الإرهاب. لست أنا من يقول هذا، إنه وزير خارجيتها الذي قال قبل بضعة أيام: "ليست الولايات المتحدة في حرب ضد تنظيم داعش، إنها ببساطة تشنّ عملية واسعة النطاق لمكافحة الارهاب".
لكي نفهم (والفهم مقدَّم على الحكم كما قلنا) فإننا نحتاج إلى تفسير مفردة "الإرهاب" في القاموس الأمريكي، فأي شيء هو عندهم؟ إنه باختصار: "كل ما يتعارض مع مصالح ورغبات الولايات المتحدة ويهدد مشروعها الاستعماري لسيادة العالم". بهذا التعريف فإن تنظيم القاعدة جزء من الإرهاب، وحماس جزء من الإرهاب، وكثير من الفصائل الإسلامية الشامية التي تأبى الخضوع للخطط والإملاءات الأمريكية جزء من الإرهاب.
هل يمكن أن نكون جزءاً من تحالف دولي لمكافحة الإرهاب بالتعريف الأمريكي، فنحارب القاعدة (جبهة النصرة) ومجاهدي سوريا وفلسطين؟ معاذ الله أن نكون.
-5-
لم يسفر التدخل الأمريكي في أراضي المسلمين في أي يوم من الأيام إلا عن كوارث جِسام، ولا يتوقع عاقل أن ينتج عن التدخل الأمريكي الجديد في سوريا والعراق غيرُ ذلك، لأن الإجراءات نتيجةٌ للسياسات، والسياسات انعكاسٌ للإستراتيجيات، والمتأمل يجد أن الإستراتيجيات الأمريكية تغيرت ببطء خلال نصف القرن الماضي في عدد من القضايا الدولية (كالعلاقة مع المعسكر الشرقي على سبيل المثال) إلا أنها لم تتغير قط في منطقة الشرق الأوسط، حيث نستقرئ ثلاثَ إستراتيجيات كبرى ما تزال تحكم علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم:
1- حماية إسرائيل، وتتحكم هذه الإستراتيجية في تحديد السياسات الأمريكية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي وفي علاقة أمريكا بدول الطوق (مصر وسوريا والأردن ولبنان).
2- تأمين مصادر الطاقة، وتتحكم هذه الإستراتيجية في تحديد السياسات الأمريكية المتعلقة بالنفط وفي علاقات أمريكا بدول مجلس التعاون الخليجي والعراق وإيران.
3- التحالف مع إيران، وتتحكم هذه الإستراتيجية في تحديد السياسات الأمريكية المتعلقة بالنزاعات الإيرانية العربية، وهي إستراتيجية طويلة المدى لم تتغير منذ أيام الشاه البائد حتى اليوم.
-6-
الإستراتيجية الثالثة مهمة جداً في فهم واستيعاب التطورات الأخيرة لأن إيران معنية بها ومتورطة بها بشكل مباشر.
ومن المفيد أن نلفت الانتباه هنا إلى أن ما بدا أنه عداء وصراع بين الطرفين خلال السنوات القليلة الماضية لم يكن سوى إعادة هيكلة للعلاقة، حيث إن إيران تجاوزت (أو حاولت أن تتجاوز) الحدود المسموح لها بها والتمدد في الإقليم على حساب النفوذ الأمريكي، فكان الرد الأمريكي هو الضغط والحصار ثم الاستنزاف في المستنقع السوري، وصولاً إلى التفاهم الأمريكي الإيراني الأخير المفضوح، وهو تفاهم هيّأ الأرضية لكل ما يجري في سوريا والعراق في هذه الأيام وما سيجري فيهما من بعد، ولا يمكن، لا يمكن أبداً أن يكون في صالح سنّة البلدين.
ربما كان ممكناً أن نستفيد من الضغط الأمريكي على إيران (بصورة محدودة ومؤقتة) في عامَي الثورة الأول والثاني، أما الآن فإن الرياح تجري في الاتجاه المعاكس، وفي الحقيقة فإن أمريكا تضغط على القوى الإقليمية للتعاون مع إيران وليس العكس، وهي ماضية في التحالف الإستراتيجي مع إيران وفي تسليمها مفاتيح الإقليم، وما حوادث اليمن المؤسفة (وكذلك حوادث البحرين التي وقعت قبل أربع سنوات) إلا حلقة في هذا المخطط الشرير.
-7-
حسناً، سيقول قائل: وماذا لو تقاطعت مصالحنا مع مصالح الولايات المتحدة؟ ماذا لو أن جزءاً من الطريق الذي تسلكه لتحقيق مصالحها يتطابق مع جزء من الطريق الذي نسلكه لتحقيق مصالحنا؟ ألا يجدر بنا أن نستغل الفرصة ونمتطي الظهر الأمريكي ليقطع بنا ذلك الجزء المشترَك من الطريق؟
الجواب: لن يحملنا الظَّهر الأمريكي مجاناً، بل لا بد لنا أن نعطي ونأخذ، فإذا شاركنا الأمريكيين في بعض مشروعهم فإننا نساعدهم حتماً على تنفيذه كله. لو أن هذا المشروع كان في صالحنا فلا بأس علينا أن نساعدهم ونسايرهم، ولا بأس علينا كذلك أن نساعدهم لو أن مشروعهم كان محايداً لا يضرّنا ولا ينفعنا، ولكن ماذا لو أنه كان مشروعاً ضاراً بنا وبثورتنا؟ ألا نكون عندئذ قد وجّهنا بعض سهامنا إلى صدورنا؟ وهل يمكن أن يكون مشروع أمريكا في صالحنا وهو قائم على إستراتيجياتها التي أوضحتها آنفاً؟ أم هل يمكن أن تتعارض سياساتُها وإجراءاتها مع إستراتيجياتها الكبرى؟ أم أنها غيرت تلك الإستراتيجيات مؤخراً ونحن لا نعلم؟
-8-
النتيجة التي سنصل إليها بعد كل تلك المقدمات: إن لأمريكا مصالحها ولنا مصالحنا، وإن لها أهدافها ولنا أهدافنا، وإن لها معركتها ولنا معركتنا، وإنهما معركتان منفصلتان مختلفتان لا يمكن الجمع بينهما ولا تنتصر واحدةٌ منهما إلا على حساب الأخرى. فمَن اقتنع بذلك كله فإنه سوف يحسم الجدل ويقول: إن حملة أمريكا الكبيرة هذه لها لا لنا، ولن نكون أبداً حطباً يحترق لتمكين المشروع الأمريكي في بلاد الإسلام.
بقي السؤال المهم: ما علاقة الحراك الأمريكي السياسي والعسكري المكثف بما يجري في سوريا؟ هل له علاقة بجريمة اغتيال قادة الأحرار؟ وماذا نفعل إذا وقعت الحرب بين داعش والتحالف الغربي؟ سأحاول تقديم الجواب في المقالة الآتية إن شاء الله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة