الاتفاق النووي.. ضربة تاريخية مرتدة من فيينا
بينا كان المؤتمرون يعلنون توصلهم لاتفاق بعد مفاوضات ماراثونية من قلب العاصمة النمساوية فيينا، بين إيران ودول غربية حول البرنامج النووي الإيراني وقضايا أخرى، كانت الذاكرة تعود بي إلى نحو خمسمائة سنة، حين كانت رسالة طهماسب، الشاه الفارسي، ابن الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية، في طريقها إلى شرلكان الامبراطور الألماني يدعوه إلى التعاون ضد جحافل دولة الخلافة الإسلامية العثمانية، التي كانت تحاصر حاضرة الغرب، عاصمة النمسا، مدينة فيينا الحصينة.
في العام ذاته (1529م) الذي كان يحاصر فيه سليمان القانوني فيينا، كانت القوات الصفوية تجتاح بغداد، وكان أهل عدن بمعاونة العثمانيين يحولون دون وصول البرتغاليين حلفاء الدولة الصفوية، إليها1 .. كانت هذه هي الصورة قبل خمسمائة عام، لكنها اليوم أخذت شكلاً آخر.
فيينا، المدينة الساحرة، اختيرت لتشهد التوقيع على الاتفاق بين الغرب و"الصفويين الجدد"، ربما لا رابط بين هذا وذاك، ربما نحن لسنا مولعين بالرمزية التي يعشقها الأوروبيون، لكن بأي حال؛ فإن الضربة التاريخية المرتدة – التي تكاثرت على مدى قرنين على المنطقة - على حصار فيينا قد جاءت الآن بلون آخر.. اتفاق لا يقتصر على إظهار تنسيق سائد بين الغرب وإيران ضد العرب كان مستتراً للعلن، وإنما يتخطى ذلك إلى نتائج تاريخية مؤثرة.
بالنظر إلى بنود الاتفاق الرئيسة المعلنة؛ فإننا نباشر انعطافة مهمة في مسار السياسة الخارجية لكل من إيران والغرب، لا ينبغي التقليل من شأنها، بنفس القدر الذي يتوجب فيه عدم المبالغة في نتائجها.
إيران حصلت على كثير.. تطبيع دولي، مرشح للبناء عليه، ربما سيتوج بافتتاح سفارة أمريكية في طهران2، سينجم عنده تدفق استثمارات هائلة في إيران، ومرونة أكبر في مشروعات مد خطوط الغاز الإيراني إلى أوروبا.. عودة عشرات المليارات الإيرانية "المجمدة" إلى طهران، بما يؤدي إلى عملية إنقاذ سريعة للاقتصاد الإيراني المتراجع، وإنعاش لقطاعات عديدة – لاسيما نفطية - عطلتها المجهودات العدوانية الإيرانية في المنطقة.. المساهمة في تكريس هيمنتها على بلدان عربية خصوصاً سوريا التي يعاني نظامها الفاشي من انهيار اقتصادي وعسكري.. تطبيع للمشروع النووي الإيراني، على الأقل في مستواه "السلمي".
الغرب أيضاً حصل على تأجيل قصير لاستئناف مشروع القنبلة النووية الإيرانية.. وضع شرطي المنطقة الحقيقي، إيران، في موضع المسؤولية المعلنة لإنجاز مهمات أوروبا والولايات المتحدة وروسيا.. مزيد من الابتزاز لدول الخليج العربي..
هذا، هو الظاهر حتى الآن، لكن المستور أكبر من هذا بكثير؛ فمن شأن هذا الاتفاق أن يفتح ملفين بالغي الأهمية لا يتعلقان بالمنطقة فحسب، وإنما بالعالم الإسلامي كله، الأول: هو فتح المجال لتبوء إيران مكانة "قائدة العالم الإسلامي"، وهذا ما قد تقبل الدول الغربية والشرقية به إذا ما "اضطرت" – أو رغبت بالأحرى - في توسعة نطاق عضوية الدول الدائمة في مجلس الأمن؛ فالطريقة التي جرت بها المفاوضات خلال الأعوام الماضية لم يقصد بها فقط مجرد إبرام اتفاق على أهميته، وإنما تصدير إيران كقوة يجلس ممثلها على مائدة مفاوضات ماراثونية وجها لوجه مع أكبر القوى الدولية، ويحظى بقدر عالٍ من التقدير والتبجيل كممثل لقوة دولية معتبرة تؤهله للعب دور أكبر في المستقبل، والتطلع إلى ما هو أعلى بكثير من نتائج ناجمة عن مفاوضات كان يمكن فرضها بحزمة من الضغوط الاعتيادية اليسيرة.
والثاني: هو تهيئة إيران سياسياً واقتصادياً لحرمان تركيا من تفوقها في المنطقة، وطموحاتها في لعب دور إقليمي ودولي فاعل يستند إلى جملة من الإنجازات الاقتصادية والدبلوماسية.. وحتى الإنسانية.
هذا ما قد يدفع إلى القلق الشديد، لكن الأمر المطمئن بعض الشيء أن إيران لم يعد في جعبتها كثير، وهي قد خسرت جل معاركها في المنطقة، وهي مدعومة بالفعل من شرق وغرب، وهي إذ تحركت في سوريا كان هذا بضوء أخضر من الولايات المتحدة وأوروبا، وميليشياتها التي تجوب العراق وسوريا ولبنان تمر تحت رادارات الغرب وفي معيته، لكنها مع كل هذا تعود جثثاً بتوابيت الهزيمة من سوريا والعراق، وتظل قدرتها على التوسع الخارجي محدودة بشرياً وليس مادياً فقط، وبالنسبة للمال الذي سيعود إليها معظم أوجه إنفاقه يعود للإصلاحات الاقتصادية الداخلية قبل الطموحات الإقليمية، كما أن هذا المال رغم ضخامته لا يزيد عن خمس الاحتياطي النقدي لدولة خليجية واحدة هي السعودية على سبيل المثال؛ فالأمر، وإن دعا للقلق؛ فهو لا يدعو إلى الانزعاج والانهزام النفسي حيال ما تم في فيينا.
وعلى النقيض، فإن اتفاق فيينا كشف آخر ما تبقى من تهويمات طائفية كانت تتذرع بها إيران لتغطية توسعاتها لحسابها الذاتي، أو بالنيابة عن الغرب والشرق، وهذا شيء إيجابي في الحقيقة؛ فإن من كان يجهل هذا التحالف العقدي في الحقيقة بين إيران والغرب بات يستشعره الآن؛ فبخلاف مليارات عربية مجمدة بشكل معلن أو غير معلن في دول الغرب، سواء أكانت في صناديق خاصة أو كانت منهوبة من قبل بعض الطغاة العرب الذين خلعوا عن عروشهم كالقذافي وبن علي ومبارك وصالح، أو آخرين غيرهم؛ فإن هذه الأموال غير مسموح بعودتها لأصحابها، دولاً وشعوباً.. لكن مع إيران يصبح الأمر مختلفاً ويسمح الغرب بعودتها منماة! كشف أن علاقة الغرب بإيران أوثق من كل علاقة أخرى مع دول عربية تتوهم أن علاقتها بالغرب لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية، وهو ما أوضح الاتفاق الأخير بجلاء أنه مجرد أوهام وأحلام يقظة!
بالعودة إلى التاريخ، لا إلى دور الصفويين في كبح فتوحات العثمانيين في قلب أوروبا، وحصار فيينا بالضرورة، وإنما إلى الجنوب، حيث عدن التي "تحررت" مؤخراً من "الصفويين الحوثيين"، وتزامن هذا "التحرير الناعم" مع توقيع الاتفاق في فيينا، حيث يدور تساؤل مستحق عن السقف الذي يمكن للعرب أن يلامسوه في مشروعهم الإقليمي، أهو يتجاوز العودة إلى المربع الأول الذي كان قبل عام أم لا؟، فصحيح أن في إخراج الحوثيين من عدن ما يسر، لكن بالنظر إلى ما تحصلت عليه إيران، والسقف المرتفع الذي بناه الغرب لها مؤخراً، أيمكن أن تكون عودة هادي إلى عدن، ثم العودة إلى نقطة صفر اليمن القديمة هو أقصى طموحاتنا العربية في ظل هذا التنسيق العالي لعلاقة متطورة مرتكنة إلى عهود وثيقة ممتدة منذ خمسة قرون، بين الغرب والصفويين.. أم أن استحضار التاريخ هنا أيضاً واجب في تأكيد علاقة ممتدة تاريخياً وجغرافياً ما بين الجيش العثماني المحاصر لفيينا، وحاميته الحصينة في عدن؛ لإنضاج تحالفات أقوى في المنطقة بين الخليج "المكبل" وتركيا "المحاصرة"؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تُنسب للقائد البرتغالي بوكيرك رسالة بعثها إلى الشاه يتعهد له بالتعاون قائلاً: "إذا أردت أن تنقض على بلاد العرب أو أن تهاجم مكة! ستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جّدة أو في عدن أو في البحرين أو في القطيف أو في البصرة".
2- ينجم عن هذا تنسيق أكبر، وتقليل من دور لندن كحلقة وصل بين واشنطن وطهران دبلوماسياً حيث كانت سفارة بريطانيا تقوم بدور مزدوج منذ إغلاق السفارة الأمريكية في طهران.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة