مميزات العسكرية الإسلامية
كتب بواسطة د. راغب السرجاني
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1584 مشاهدة
تميَّزت العسكرية الإسلامية عن غيرها بعدة مزايا ومبادئ، لم يشهدها العالم قديمًا أو حديثًا، ومن أهمها: إيمان القائمين عليها بالهدف، وتصميمهم على بلوغه، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه القدوة والمثل في ذلك؛ حين رفض كل عروض قريش للعدول عن حمل رسالة الإسلام وتبليغها للعالمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب: "يَا عَمِّ، وَاللهِ! لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ وَأَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ"[1].
كما وقف الصِّدِّيق أبو بكر رضي الله عنه نفس الموقف، عندما منع بعض المسلمين الزكاة، وهي ركن من أركان الإسلام، فقال: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يُؤَدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُقَاتِلَنَّهم على منعها؛ إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلنَّ من فَرَّق بين الصلاة والزكاة"[2].
وعلى هذا التصميم والإصرار سار القادة المسلمون، فكانت الشهادة في سبيل نشر دين الله أحبَّ إليهم من الحياة، فكان ذلك المفتاح الأول من مفاتيح تحقيق النصر لخططهم العسكرية؛ لأنهم آمنوا بأن النصر من عند الله؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْـحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
طبيعة الحرب في الإسلام
ولم تكن الحرب في الإسلام حربًا عدوانية من أجل السلب والنهب، أو من أجل مكسب دنيوي زائل، بل لتكون كلمة الله هي العليا؛ لذلك كانت همة المجاهدين تهون أمامها الجبال، ورُوحهم المعنوية تتحطَّم على صخرتها الصعاب؛ لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. فكانت هذه الروح المعنوية القوية -التي لا حدود لها- من أقوى العوامل التي أَثَّرت على نجاح العسكرية الإسلامية؛ لذلك يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس عظيم القبط:
"إنما رغبتنا وهمَّتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوًّا ممن حارب الله؛ لرغبة في الدنيا، ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أنَّ الله عز وجل قد أحلَّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يُبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب، أم كان لا يملك إلا درهمًا؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسدُّ بها جوعته ليلته ونهاره، وشَمْلة[3] يلتحفها؛ وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقتصر على ما بيده، ويبلغه ما كان في الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء؛ إنما النعيم والرخاء في الآخرة؛ بذلك أمرنا الله، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يُمْسِك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه، وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يَرُدَّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد مِنَّا ربه أهله وولده، وإنما همنا أمامنا"[4].
وتميزت العسكرية الإسلامية كذلك بالرُّوح الجماعية التي يشعر معها كل إنسان في المجتمع الإسلامي أنه مسئول عن تحقيقها؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "يَدُ اللهِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ"[5]. ولذلك نجد الحباب بن المنذر رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بَدْر، عندما رأى أن الموضع الذي نزل فيه المسلمون لن يُحَقِّق لهم نصرًا مؤكَّدًا على عدوِّهم: يا رسول الله، أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكَهُ الله، ليس لنا أن نُقَدِّمه ولا نتأخَّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْـحَرْبُ وَالْـمَكِيدَةُ". فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب[6]، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ". فنهض رسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُبِ، فغوِّرت، وبني حوضًا على القليب الذي نزلَ، فمُلِئ ماءً ثم قذفوا فيه الآنية"[7].
ولم يكن تحرك المسلمين لتجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك إلا انطلاقًا من شعورهم بالروح الجماعية التي تربط المجتمع المسلم، ولم تشهد أي حضارة من الحضارات الأخرى مثل هذه الروح الجماعية الرائعة في البذل والعطاء؛ لتحقيق المهمة العسكرية التي أقرَّتها قادتهم؛ حيث تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان رضي الله عنه قد جهز عيرًا للشام، مائتا بعير بأقتابها[8] وأحلاسها[9]، فتصدَّق بها، ثم تصدق بمائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم تَصَدَّق وتَصَدَّق، حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس، سوى النقود.
وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كلِّه - وكانت أربعة آلاف درهم- ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله، وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء العباس رضي الله عنه بمال كثير، وأما طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة -رضي الله عنهم جميعًا- فكلهم جاءوا بمال، وجاء عاصم بن عدي رضي الله عنه بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدًّا أو مدين، لم يكن يستطيع غيرها، وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك، ومعاضد، وخلاخل، وقراط، وخواتم[10].
بين القائد وجنوده
وتأتي العلاقة المتميزة بين القائد وجنوده عاملاً من أهم عوامل نجاح العسكرية الإسلامية؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إقامة جسور الحب والثقة بينه وبين جنوده، فيُسَمِّى كل واحد منهم باسم محبب إلى نفسه، فيقول عن أبي عبيدة رضي الله عنه: "لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْـجَرَّاحِ"[11]. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه: "لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِييِّ، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ".
وكان صلى الله عليه وسلم يشاركهم في القيام بمهامهم الدفاعية والهجومية، كما فعل في غزوة الأَحْزَاب، وعلى نهجه سار القادة من بعده، يعيشون بين جنودهم في تواضع؛ لذلك يصفهم رسول المقوقس بقوله: "رأيت قومًا الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على الأرض، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد"[12].
[1] ابن هشام: السيرة النبوية 3/101
[2] أبو الربيع الأندلسي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 3/7.
[3] الشَّمْلة: مِئْزَرٌ من صوف أَو شَعَر يُؤْتَزَرُ به. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة شمل 11/364.
[4] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1/4.
[5] الترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (2166)، والنسائي (4020)، وابن حبان (4577)، والحاكم (399)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (1848).
[6] القُلُب: جمع قليب، وهو البئر. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة قلب 1/685.
[7] ابن هشام: السيرة النبوية 1/620، وابن كثير: السيرة النبوية 2/402، والسهيلي: الروض الأنف 3/62، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/29.
[8] أقتاب جمع قتب، وهو الرحل الصغير على قدر سنام البعير، المعجم الوسيط، مادة قتب ص714.
[9] الحلس: كساء غليظ، يلي ظهر البعير. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حلس 6/54.
[10] ابن كثبر: السيرة النبوية 4/6، بتصرف.
[11] البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران (4121).
[12] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1/11.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة