خصومة الأكابر
عن أبي هريرة رضي عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرَف ثوبه حتى أبدي عن ركبته؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمَّا صاحبُكم فقد غامر. فسَّلم وقال: يا رسولَ الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطِّاب إليه ثم ندمتُ! فسألتُه أن يَغفر لي فأبى عليَّ! فأقبلتُ إليك. فقال: يغفر اللهُ لك يا أبا بكر! ثلاثاً.
ثم إنَّ عمرَ ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فسلَّم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلّم يَتمَعَّرُ! حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، أنا كنت أظلمَ! مرتين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ! وقال أبو بكر: صدق! وواساني بنفسه وماله؛ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين. فما أوذي بعدها. رواه البخاري.
* * *
المفردات:غامر: دخل في غمرة الخصومة، والمغامر: هو الذي يرمي بنفسه في الأمر العظيم، وأصل الغمرة: الماء الكثير.
يتمعَّر: يتغيَّر وتذهب نضارته من أجل الغضب، والظاهر أنه من قولهم: مكان أمعر إذا لم يكن به خصب؛ وفي نسخة: يتمغر: أي يحمر، كأنه صُبِغ بالمغرة.
واساني، وفي رواية: آساني بالهمز، وهي الأصل، وعليها يقتصر بعض أهل اللغة، والحديث حجة عليه: والمواساة: المعاونة.
تاركوا لي صاحبي، بحذف نون الإضافة، وفي رواية بإثباتها وهي الأصل، ولذا قال أبو البقاء إن الحذف من خطأ الرواة أفلا يبلغ رواة البخاري عنده مبلغ رواة النحاة؟! مع أن لمثل هذا الحذف بين المضافين في العربية وجهاً وجيهاً وشاهداً.
* * *
الخصومة من طبيعة البشرالخصومة من طبيعة البشر في هذه الحياة الدنيا، لا مَعدي لهم عنها ولا محيص لهم منها، ما داموا يختلفون ويتجادلون "ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهمْ". [ الكهف: ٥٤ ] "وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً" [هود ١١٩]. بيد أنها تختلف قوة وضعاً، ورفقاً وعنفاً، وقصداً وسرَفاً، تبعاً لاختلاف الطبائع والميول، والآراء والعقول، وكبر النفوس وصغرها، وعلوّ الهمم وسفلها.
* * *
موقف الإسلام من الخصومة
ولا يؤاخذ الإسلام أحداً باختلاف وخصومة في سبيل الحق والجهاد فيه والعمل له ما دام سليم القصد حسن الطوية، نَّزاعاً إلى الخير، ولو أخطأ في بعض أحيانه قصد السبيل، بل ربما يدعو الإسلام إلى الهجرة _ وهي توأم الخصومة _ إذا كانت سبيلاً إلى التربية والتأديب. وفي هجرته صلى الله عليه وسلّم نساءه شهراً أبلغ حجّة وأبين دليل.
كما لا يؤاخذ الإسلام أحداً كذلك بالنزعة ينزعها الشيطان في مخاصمته لأخيه، إذا استغفره أو استغفر الله له، معترفاً بذنبه، عائذاً من الشيطان بربه، غير مُصِرّ على ما فعل، ولا مجادل في بعد ما تبين.
* * *
على هذا النحو من النبَل في الخصومة _ إن لم يكن بدٌّ منها _ كانت خصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما شَجَر بينهم، وعليه تكون خصومة الذين جاءوا من بعدهم "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِینَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" الحشر – 10
* * *
أنبل خصومة عرفها التاريخوفي هذا الحديث مثل من أروع الأمثال في شرف الخصومة ونبلها، يضربه لنا الصديق والفاروق بين يدي الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، فنرى فيه من أعاجيب الفَضْل والنبل والسودد ثم من أساليب التربية والتزكية والتعليم، ثم من الاعتراف بالجميل لأهله، ما يجلّ عن وصف الواصفين.
* * *
كان بين الصاحبين الكريمين رضوان الله عليهما محاورة ومعاتبة، أسرع فيها الصدّيق إلى الفاروق فأغضبه.. انصرف عمر غضبان أسفاً! وأتَّبعه أبو بكر نادماً معتذراً! يسأله أن يتقبَّل عذره فلم يقبل، ويتوسَّل إليه أن يغفر له فلم يفعل، بل تحرَّر بعد الفرار منه بداره، وأغلق بابه في وجهه! إنها لكبيرةٌ، وسابقةٌ جدَّ خطيرة، ليس لها أن ترفع، إلا إلى الشفيع المشفَّع صلوات الله وسلامه عليه…
أقبل رضوان الله عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، وقد كشف عن ركبته، وأخذ من ثوبه بحاشيته، حتى سَلَّم وجلس وقصَّ ما كان بينه وبين صاحبه لم يظلم منه شيئاً، وما أن فرغ من شَكاته، حتى طَمْأنه الرسول الكريم بدعوته: أن يغفر الله له، ثلاث مراراً يكررها …
* * *
شذرة من مناقب العمرين:كان الفاروق رضي الله عنه في هذه الأثناء راجع نفسه فَندم على ما كان منه لأحب الناس إليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلْيُسرع إذاً إلى بيته ليغفر له ويتقبَّل معذرته، بل ليستغفره ويتعذر له! فلما لم يجده بمنزله أسرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. وَمِنْ خير المربين تلقّى درساً شديداً قاسياً، غير أنه كان عظيم النفع، حميد العاقبة.
لم يكن درساً لعمر وحده، بل كان درساً للأمة كلها في شخص عمر، ذلك الذي أعزَّ الله به الإسلام، وفرَّق به بين الحق والباطل، وأعدَّه لأمر عظيم هو أحق به وأهله، بعد أفضل الناس وأحبَّهم إلى رسوله وأولادهم به، ذلكم ثاني أثنين الله ثالثهما، ذلكم الصديق أبو بكر رضي الله عنه.
* * *
فضل الصدّيق عن الفاروق:
فليجلس عمر إذاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس التلميذ من معلمه، ولا بأس إذاً بأن يعرض عنه صلوات الله وسلامه عليه مراراً، لأنه كان صاحبَ حق فأضاعه وصار مديناً، وليذكر _ إن كان نسى _ من هو أبو بكر؟
صاحبَ الأيادي البيضاء التي ذكرها أعرف الناس للصنيعة وأذكرهم لها صلوات الله عليه وسلامه، فقال فيما قال من فضائله التي لم يشرك فيها أحداً غيره: "إنَّ من أمنَّ في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت مُتَّخذاً خليلاً غير ربي لاتّخذت أبا بكر خليلا ؛ ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقين في المسجد باب إلا سدَّ باب أبي بكر"
وقال: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه بها ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر".
* * *
درسٌ نبويٌّ عظيم:وبينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤِّنب عمر ويعتب عليه أن لم يقبل عذر أبي بكر ولم يغفر له بعد أن استغفره، وكان الظن به ألا اعتذار أو استغفار _ أشفق أبو بكر على عمر أن يناله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، فيبرك على ركبتيه معتذراً آسفاً، ويقسم للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين أنه كان أظلم، لأنه هو الذي بدأ صاحبَه بالإساءة!
وهنا يكفُّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن تأنيب عمر وتوبيخه، ثم يذكر بعض مآثر أبي بكر ومناقبه وسبقه إلى التصديق برسالته، ومؤاساته له بنفسه وماله، ثم يختم حديثه عن أولى الناس به من صحابته بهذه الكلمة المدوية الجامعة: " فهل أنتم تاركو لي صاحبي"؟ ويكرِّرها مرتين أو ثلاثاً كما في بعض الروايات، تلك الكلمة التي كانت فَصْل الخطاب، في فضل مقَّدم الأصحاب، فلم ينله من الصحابة رضوان الله عليهم مكروه بعدها.
رواه الشيخان والترمذي، وروى الذي يليه الترمذي.
* * *
درس إلهي أجمل وأعظم:وإذا أثمرت هذه الخصومة الكريمة بين العمرين ذلك الدرس النبوي العظيم، فثمّة درس إلهي أجلّ وأعظم، لا يعنينا أن كان لاحقاً أو سابقاً، ولكن يعنينا أنه تأديب رباني للناس كافة، ولأولي الأمر منهم خاصة، وفي مقدَّمتهم الإمامان الخيِّران: أبو بكر وعمر.
ففي صحيح البخاري وغيره أنّه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ركبٌ من بني تميم قال له أبو بكر رضي الله عنه: أمّر عليهم القعقاع بن معيد؛
وقال عمر رضي الله عنه: بل أمّر الأقرع ابن حابس: فقال أبو بكر: ما أردتَ إلا خلافي، وقال عمر: ما أردتُ خلافك. فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، ونزل قوله تعالى "يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّه وَرَسُولِه وَاتَّقُوا اللَّه إِنَّ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الحجرات: 1] إلى قوله (عظيم) فما كانا يكلّمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد ذلك إلا سرارا.
اختصما في الخير والمصلحة للأمة، ولكنهما اقتاتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن استشارهما، ثم عَزَب عنهما أنَّ مجلسه أجلّ وأرفع من أن يكون فيه تنازع أو صَخَبٌ، وهما الأسوة الحسنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان في هذه الآيات التأديب الإلهي الرائع، الذي يملأ النفوس إجلالاً وإكباراً للرسول الأكرم، وينقى المراجعة أو المجادلة مما يشوبها من كدر الخصومة ولجاَجها.
* * *
شعار الحيّريْن بعد الدرسين:وكذلك كان هذا الأدب الرفيع شعارَهما فيما يختلفان فيه بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى وهما يقلِّبان وجوه الرأي، لا وجهة لهما إلا الخير والمصلحة، وسرعان ما يتفقان على ما هو أهدى سبيلا، ومن ذلك اختلافهما في قتال مانعي الزكاة وكان رأي أبي بكر أن يأخذهم بالسيف حتى يؤدُّوها كاملة، ورأى عمر مسالمتهم وتألفهم خشية أن يكون القتال نكبة على الإسلام والمسلمين! ولكن عزم الصديق وهو الرفيق الليّن، غلب سلم الفاروق وهو المقْدام الصنديد!
ومن ذلك اختلافهما في القرآن كما أشار عمر وتحرّج أبي بكر أن يفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر للذي شرح له صدر عمر.
هذا مثلٌ من أمثال كثيرة في خصومة أولي الفضل والنبل ينادينا ألا تلغوا ولا تخاصموا فإن لم يكن بد للغو أو خصام، فحسبكم أن تمرُّوا عليه مرور الكرام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن