زُبَيْدة زوجة الرشيد...ساقية الحجيج
كتب بواسطة إعداد: منال المغربي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
1388 مشاهدة
زُبَيْدة زوجة الرشيد...ساقية الحجيج
«أَمطري يا سحابة أنّى شئت فسيأتيني خراجك».هذه الجملة من مأثورات أقوال الخليفة المفترى عليه هارون الرشيد رحمه الله؛ يصف فيها سعة وعظمة وتمكّن دولة الإسلام التي امتدت وانتشرت فوق أصقاعٍ لم يكن أحد يتصور أن يصل الإسلام إليها.
وقال الصفدي في «الوافي بالوفيات»: «وكان من أميَز الخلفاء وأجلَّ ملوك الدنيا، وكان يحبّ العلم وأهلَه ويعظِّم حُرُمات الله في الإسلام».
وإذا كان المثل يقول: وراء كل رجل عظيم امرأة، فمَن هي المرأة التي كانت تقف وراء ملحمة المُلك وبيت الزوجية وتقديم النموذج؟
هي الأميرة أَمَةُ العزيز «زُبَيْدة» صاحبة الإنجاز الحضاري العظيم «عين زبيدة»، أول مشروع مائي في التاريخ.
نسبها
من فُضْلَيات النساء وشهيراتهن، ولدت في عام 145هـ، ترجم لها الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه «تاريخ بغداد» فقال: «هي: أم جعفر، أَمَةُ العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، المعروفة بزبيدة، زوجة هارون الرشيد، وأم ولده الأمين. كانت معروفة بالخير والأفضال على أهل العلم، والبِر للفقراء والمساكين، ولها آثار كثيرة في طريق مكة، من مصانع حَفَرتْها، وبرَك أحدثتْها، وكذلك بمكة والمدينة، وليس في بنات هاشم عباسية وَلَدتْ خليفة إلا هي. ويقال إنها وُلِدَت في حياة المنصور، فكان المنصور يُرقصها وهي صغيرة، فيقول لها: أنت زُبدة، وأنت زُبَيْدة (لبَضَاضَتِهَا ونَضَارَتِها)؛ فغلب ذلك على اسمها».
زواجها
تزوجت من هارون الرشيد سنة 165هـ، وكان ذلك في خلافة المهدي ببغداد، وأنجبت منه ابنها محمداً الأمين، وكانت أثيرة في نفس زوجها يحبها حباً جماً؛ فكانت رفيقة الخليفة في معظم رحلاته، سواء كانت لغزو الروم أو للدفاع عن حدود الدولة ضد الغزاة أو للحج.
عبادتها واهتمامها بالقرآن الكريم
لقد كانتْ كما وصفها المؤرخ المصري ابن تَغْرِي بَرْدِي بقوله: «أعظم نساءِ عصرِها دِيناً وأصلاً وجمالاً وصيانة ومعروفًا»، ولقد كان لزبيدة من الجواري مائة جارية، وكنّ يحفظن القرآن الكريم، وكان يُسمع في قصرها طنين كطنين النحل من قراءة القرآن الكريم، وبذلك تكون «زبيدة» قد نهجت منهجاً فريداً في حسن معاملتها للخدم؛ حيث إنها شغلتهم بالطاعة والأعمال الصالحة فأصبحت سبباً في حصولهنّ وحصولها على الأجور العالية عند الله تعالى.
رجاحة عقلها
كانت أمَة العزيز تحب ابنها محمد الأمين حباً جماً. ورغبت أن يلي الخلافة بعد أبيه دون أخيه المأمون ابن الرشيد، غير أنه فشل في الحكم، ودارت الدوائر عليه وقُتل في معركة بين أنصار الأخوين، وقد برزت رجاحة عقلها ورزانتها، فيما ذكره المسعودي في كتابه «مروج الذهب»: «ولما قُتِلَ ابنُها الأمينُ، دخل إليها بعض خَدَمِها فقال: «ما يُجْلِسُكِ وقد قُتِل أمير المؤمنين محمَّد؟ فقالت: ويلَكَ وما أصنع؟! فقال: تخرجين فتطلبين بثأره، كما خرجت عائشة تطلب بدم عثمان، فقالت: اخْسَأْ لا أُمَّ لَكَ، ما لِلنّساءِ وَطَلَبِ الثَّأْرِ ومُنَازَلَةِ الأبطالِ؟!»، فوأدت مساعي أهل الفتنة لتحريضها على الثأر من المأمون، الذي كان بمكان ولدها - إذ هي التي ربّته لأن أمه ماتت بحمّى النفاس بعد ثلاثة أيام من ولادته - وقد أرسل إليها يبرئ نفسه بعد أن أرسلت إليه أبياتاً من الشعر أبكته ثم قال: «اللَّهُمَّ إني أقول كما قال أمير المؤمنين علي لمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ عثمانَ: والله ما قتلتُ، ولا أمرتُ، ولا رَضِيتُ».
روى الخطيب البغدادي أن زبيدة قالت للمأمون عند دخوله بغدادَ: «أُهَنِّيكَ بخلافة قد هَنَّأْتُ نفسي بها عنكَ قبل أن أراكَ، ولئن كنتُ قد فقدتُ ابنًا خليفَةً، لقد عُوِّضْتُ ابناً خليفَةً لم أَلِدْهُ، وما خَسِرَ منِ اعْتَاضَ مِثْلَكَ، ولا ثَكِلَتْ أمٌّ مَلأتْ يَدَهَا مِنْكَ، وأنا أسأل الله أَجْراً على ما أَخَذَ، وإمتاعاً بما عَوَّضَ»، فأخذ المأمون بعد ذلك يَزِيدُ في تكريمه لزبيدةَ وأُسْرَتها.
ثقافتها
عُرف عن زبيدة اهتمامها الكبير بالآداب والعلوم، فبذلت الكثير حتى حشدت في العاصمة بغداد مئات الأدباء والشعراء والعلماء، ووفرت لهم كل وسائل الإنتاج والبحث، وقد بذلت في سبيل ذلك الأموال الطائلة.
جُودها وكرمها
قال عنها الرحالة الجغرافي ابن جُبير في كتابه - الذي سطّر فيه أخبار رحلاته - أثناء طريقه إلى مكة: «وهذه المصانع والبِرَك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدّة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها حتى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سُلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها والرضا عنها».
فعندما حجّت إلى بيت الله تعالى سنة 186 هجرية، أنشأت من بغداد إلى مكة مجموعة من المساجد والبرك والآبار والمنازل والمصانع والمرافق وجعلتها للنفع العام، ويذكر المؤرخون أنها في إحدى رحلات الحج شاهدت مدى معاناة حجاج بيت الله في الحصول على مياه للشرب، حيث كان الوعاء الواحد يباع بدينار. فأمرت المهندسين بدراسة عاجلة لجر المياه إلى مكة المكرمة. فأشاروا عليها بأن الأمر صعب للغاية، حيث يحتاج لحفر أقنية بين السفوح وتحت الصخور لمسافة لا تقل عن عشرة أميال. وقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة. فأمرته بتنفيذ المشروع على الفور ولو كلفت ضربة الفأس ديناراً. فأحضر خازن المال أكفأ المهندسين ووصلوا إلى منابع الماء في الجبال، ثم أوصلوه «بعين حنين» بمكة. وهكذا أسالت الماء عشرة أميال من الجبال ومن تحت الصخور، ومهدت الطريق للماء في كل خفض وسهل وجبل، وعُرفت العين فيما بعد وحتى الآن باسم «عين زبيدة». وما زالت القناة التي بنتها تُعرف باسم نهر زبيدة. كما بنت المساجد والأبنية في بغداد كذلك.
وروي أنها في تلك الحجّة بلغت نفقتها في ستين يوماً أربعة وخمسين ألف ألف (مليون) درهم. وكانت تنفق في اليوم الواحد آلاف الدنانير قائلة: ثواب الله بغير حساب.
وفاتها
عاشت السيدة زبيدة 32 عاماً بعد وفاة هارون الرشيد، وتُوفيت في بغداد سنة 216هـ بعد أن عاشت في ظل المأمون معزّزة مكرّمة كما كانت في عهد أبيه. وكان المأمون يعاملها معاملة الأم، وكثيراً ما كان يلجأ إلى مشورتها في أمور الدولة، ويقبل برأيها، حتى لو كان مخالفاً لما يراه هو شخصياً.
روى ابن خَلّكان في كتابه «وَفَيات الأعيان» عن الإمام عبد الله بن المبارك أنه رآها في المنام فقال لها: «ما فعل الله بكِ؟» قالت: «غفر الله لي بأول مِعول (أي فأس) ضُرب فى طريق مكة».
* * *
هذه «زبيدة» رحمها الله خير نموذج وقدوة لكل امرأة في قصر حُكم وفي بيت إمارة، ولكل سيدة ذات مال وذات مُلْك وسُلطة وذات حسبَ ونسبَ... زبيدة التي لا تشغلها دنياها عن طاعة ربها.
تغمَّدها الله برحمتِهِ، ورضي عنها وأجزل لها الثواب.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة