الخاتون ست الشام... أخت السلاطين
تُعتبر المرأة في العصر الأيوبي من أهم أعمدة الحركة العلمية والسياسية في الدولة؛ مما أهّلها لتكون سيدة الشرق في القرنين السادس والسابع الهجريَّيْن. ولعل من أبرزهن وخير من يتقدمهن السيدة الخاتون ست الشام زمردة بنت نجم الدين التي تُعتبر الجندي المجهول الذي قام على إعمار المدارس والاهتمام بالأدب والأدباء والعلم والعلماء والفقراء والمحتاجين.
فمن هي؟
يقول الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: «خاتون أخت السلاطين... لها بر وصدقات وأموال وخدم» أخت الملوك وعمة أولادهم وكان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكاً... ومنهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فاتح القدس، ومؤسس الدولة الأيوبية في بلاد الشام ومصر واليمن. ولدت بدمشق، ونشأت في كنف والدها نجم الدين أيوب بن شاذي، وكان من كبار رجالات السلطان نور الدين محمود بن زنكي، وكان عمها أسد الدين شِيركوه من كبار قواده.
زواجها
تزوجت في بداية حياتها من لاجين، وهو رجل لم يذكر لنا التاريخ شيئاً من أخباره، وأنجبت منه وحيدها حسام الدين بن لاجين، ثم تزوجت من ابن عمها، ناصر الدين محمد بن شيركوه، وكان صلاح الدين قد ولاه حمص منذ سنة 570هـ/1175م، وبقيت عنده إلى حين وفاته فجأة في 9 ذي الحجة سنة 581 هـ/1186 م، وورثت منه ثروة عظيمة.
تربية جهادية
صرفت جُل همها لتعليم ابنها حسام الدين, فكان لها ما أرادت. امتاز ابنها بالشجاعة والكرم بين أقرانه، فقرّبه إليه خاله صلاح الدين، وعقب رجوعه من الحج مع والدته ست الشام سنة 582 هـ/ 1187 م حضر معركة حطين سنة 583 هـ /1187 م، فكان لصلاح الدين من أعظم الأعوان، فأرسله عقب المعركة مع فرقة من العسكر إلى نابلس ففتحها بالأمان، فولاّه عليها حتى وفاته بدمشق في رمضان سنة 587 هـ/1191 م، وفُجع صلاح الدين بوفاته، وفُجعت ست الشام بوحيدها، ودفنته في التربة التي كانت بنَتْها لزوجها ناصر الدين في مقبرة العوينة، فأصبحت تعرف بالتربة الحسامية نسبة إليه.
حادثة الكرك
تعتبر هذه الحادثة السبب في تحرير هذا الحصن من قبضة الصليبيين؛ مع قافلة كبيرة سافرت ست الشام برفقة ابنها محمد بن لاجين الملقب بحسام الدين لقضاء فريضة الحج حتى إذا وصلت إلى منطقة قريبة من الكرك تعرض لها أرناط - صاحب الكرك الصليبي - وحين بلغ صلاح الدين ما تعرضت له أخته خاتون وولدها والقافلة أقسم أن يقتل أرناط بيده وفعل.
أم الفقراء
اهتمت ست الشام بالمشاريع الخيرية؛ حيث صرفت جُلّ وقتها وأكثر أموالها في خدمة الضعفاء والمحتاجين والمصابين والمنكوبين؛ وحينما انتقلت إلى دمشق، سكنت في دار واسعة قِبْلي البيمارستان النوري، جعلته مقصداً وملاذاً للخائفين من بطش الإفرنج رجالاً ونساء، وكانت تقدم الصدقات لكل محتاج وتغدق في عطائها عليهم، ومما يذكره عنها ابن كثير في تاريخه: «كانت من أكثر النساء صدقة وإحساناً إلى الفقراء والمحاويج وتعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك فيفرَّق على الناس». حتى عُرفت بين معاصريها بمحبتها للخير وإيثارها لأهله.
راعية العلم
أبرز ما قامت به إنشاء مدرستين عظيمتين، هما:
1- المدرسة الشامية البرانية: أنشأتها سنة 582 هـ، وتعرف بالمدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها الأمير حسام الدين. وقد عيّنت فيها خيرة علماء عصرها، واشترطت عليهم ألا يدرسوا بمدارس أخرى لضمان تفرغهم وتلبية حاجة الطلبة من الاهتمام الكافي. وكان أول من درَس بها من العلماء الإمام الكردي الشهرزوري, والقاضي شرف الدين بن زين القضاة، وغيرهما من العلماء. وقد أوقفت الست زمردة خاتون على المدرسة أوقافاً ضخمة من أموالها.
2- المدرسة الشامية الجوانية: يذكر المؤرخ شهاب الدين النويري أنّ الخاتون ست الشام عندما لحق بها المرض «جعلت دارها مدرسة ووقفت عليها وقوفاً» حتى أصبحت من أكبر المدارس وأعظمها، وأكثرها فقهاء، وأكبرها أوقافاً، وكانت بمحلة العقيبة بدمشق، وقد درّس بهذه المدرسة العديد من العلماء والفقهاء، أمثال: شيخ الشافعية ابن قاضي شُهبة - قاضي القضاة تقي الدين ابن عجلون - الشيخ تقي الدين السبكي - الشيح تاج الدين السبكي.
هذا وقد ذكرت ست الشام في نص الوقفية أن من شرط الفقهاء والمتفقهة والمدرس والمؤذن والقيم أن يكونوا جميعاً من أهل الخير والدين والصلاح والعفاف وحُسْن الطريقة وسلامة الاعتقاد والسنة والجماعة.
وفاؤها لأخيها
ذكر ابن شداد في سيرة صلاح الدين أنه توفي يوم الخميس مستهل صفر، بثغر الإسكندرية المحروس، ونقلته أخته شقيقته ست الشام بنت أيوب إلى دمشق، ودفنته في مدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبرها وقبر ولدها حسام الدين عمر بن لاجين وقبر زوجها ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص.
وفاتها
في يوم الجمعة الموافق للسادس عشر من ذي القعدة سنة 616 هجرية توفيت ست الشام بدمشق بدارها المقابلة للبيمارستان النوري بجنازة رهيبة تحدثت عنها الركبان؛ فقد سار الناس وراء نعشها بالآلاف وهم يردِّدون الأدعية لها حيث دفنت فوق ولدها حسام الدين، ويقال بأن جنازتها كانت فريدة إذ لم تشيع امرأة قبلها بمثل ما شُيعت به خاتون ست الشام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة