العلاّمة الشيخ عبد الرحمن حبنّكة قصةُ حياة ومسيرة علم وجهاد
لقد نشأ الشيخ في بيت علمٍ وفضل، وتربّى في دارة سؤدد ومجْد، كان والده فضيلة الشيخ حسن حَبَنّكة المَيْداني من كبار علماء سوريا، افتتح مدرسة شرعية في دمشق، تخرَّج فيها كثيرٌ من العلماء والفُضَلاء. وكان من أنجبِ مَن تخرُّج منها: ولده الشيخ عبد الرحمن.
وبعد أن أتمَّ دراستَه الإعدادية والثانوية، توجّه إلىالأزهر في مصر، فنال شهادته في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وكان مقرّباً من العالِم الفاضل الكبير الشيخ الخَضِر حسين، شيخ الأزهر، فكان يزوره في بيته، ويُملي عليه الشيخ أموراً من مسيرة حياته.
وبعد أن نال الشهادة الأزهرية عاد إلى سوريا، فعلّم في المدارس الثانوية في دمشق، ثم أصبح مديراً للتعليم الشرعي في وزارة الأوقاف... ثم انتقل للتعليم في المملكة العربية السعودية، فدرّس بضعَ سنوات في الرياض، ثم انتقل إلى جامعة مكة المكرمة التي سُميت فيما بعد بجامعة أمّ القرى.
وهناك أمضى فيها ما يزيد على ربع قرن، وتخرّج على يديه مئات من الطَّلَبة، أصبح بعضهم من العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان، وابتُلي الشيخ في آخر عمره بأمراض كثيرة، وعانى منها ما يعاني الصابرون، ثم عاد إلى بلده دمشق بعد غياب طويل، وهناك في دمشق استأثرت به رحمةُ الله عز وجل، فشُيّع فيها وصلّى عليه في مسجد والده - (مسجد مَنْجَك) - ومشى وراء نعشه عشراتُ الألوف من المسلمين إلى مثواه، رحمه الله.
لقد مات الشيخ المَيْداني الموتة التي كتبها الله على كل حيّ كل شيء هالك إلا وجهه ولكنه أبقى بين يدي الناس ما يُذكر به على الدوام، أبقى بين أيديهم، العلم النافع والكتب المفيدة.
لقد فتح الله على الشيخ فتحاً مبيناً في عالم التأليف، وكتب في أكثر من علم، وصنّف في العديد من الموضوعات، وكان أول ما أخرج للناس كتاب (العقيدة الإسلامية وأسسها) وقد طُبع هذا الكتاب طبعات عديدة، وانتفع به عشرات الألوف من الناس، ثم أخرج للناس سلسلة كتب سماها: (في سلسلة أعداء الإسلام)، أخرج منها ثمانية كتب، بل ثمانية أسفار كبيرة، قد أذاع بعضها بصوته في إذاعة (نداء الإسلام) في مكة المكرمة، وهذه الأسفار هي:
1- مكايد يهودية عبر التاريخ.
2- صراع مع الملاحدة حتى العظْم.
3- أجنحة المكر الثلاثة: (التبشير - الاستشراق - الاستعمار).
4- الكيد الأحمر (الشيوعية).
5- غزو في الصميم: (في مناهج التربية والتعليم التي غُزي بها العالم الإسلامي).
6- كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة.
7- ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين في التاريخ (في مجلدين).
8- التحريف المعاصر في الدين (في الردّ على شحرور).
ولم يترك في هذه السلسلة القيّمة عدواً من أعدام الإسلام إلا فضح سَتْره وكشف عن عورته، وأبان خطره، كل ذلك في دراسات عميقة، متينة، وفي صياغة منهجية مفيدة.
والأستاذ المَيْداني قد تفنن في تسمية عناوين سلسلته، وقد وُفِّق في ذلك، فقد سمى على سبيل المثال كتابه الثالث: (صراع مع الملاحدة حتى العظم) وفي التسمية تورية؛ فالمؤلف يريد أستاذاً جامعياً ناصرَ الإلحاد ولا يزال، واسم عائلته (العظم)، وألّف هذا الجامعي كتاباً ينتصر فيه لأفكاره الملحدة، ولقد سمعت هذا الأستاذ الجامعي المسكين مِنْ أشهُرٍ يتكلَّم في بعض الفضائيات، فإذا به يَنْعت القرآن العظيم بأنه كتاب قديم لا يصلح لزماننا!!!
ولم تقف جهود الشيخ العلمية عند (سلسلة أعداء الإسلام)، فقد أخرج للناس في موضوع الأخلاق الإسلامية سِفرين عظيمينُ يُعتبران موسوعة في (الأخلاق الإسلامية) ومدرسة لخطباء الجمعة، وألف أيضاً سِفْرين كبيرين في موضوع (الدعوة إلى الله عز وجل).
ولقد أخرج للناس سِفْراً هاماً في موضوع (الحضارة الإسلامية)، وسِفْراً آخر سماه (بصائر للمسلم المعاصر)، وسِفْراً ثالثاً سماه: (روائع من أقوال الرسول ؟)، وألف غير ذلك من الكتب النافعة التي تصلح أن تكون مواد دراسيّة وتعليم لأجيال من المسلمين.
وكان من فضل الله على الشيخ أن فتح عليه فتحاً مجيداً في تدبُّر آي القرآن الكريم، فاتّجه نحو إيجاد تفسير جديد للمسلمين، وأخرج للناس مقدمة هذا التفسير في مجلَّد كبير، سمَّاه (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل)، ضمّنه أكثر من أربعين قاعدة مهمة لفَهم كتاب الله تعالى.
ثم اتجه عملاً بتلك القواعد إلى تفسير القرآن العظيم وآثر أن يُخرج هذا التفسير بحسب نزول السور وسمّاه (معارج التفكُّر ودقائق التدبُّر)، وأخرج للناس منه خمسة عشر مجلداً، استوفى فيها تفسير القرآن المكّي ثم شرع يفسر سورة البقرة. وهنا توقف الشيخ لأن الله تعالى شاء له أن يموت وينتهي أجله في هذه الحياة الدنيا.
ولا يسعنا إلا أن نحمد الله على كل حال ونسلّم بقضائه ونرضى به كل الرضا.
كان رحمه الله كلّما سألتُه: أين وصلتَ في التفسير؟ يجيبني بأن ما يكتبه ليس من عنده، وإنما هو من توفيق الله عزّ وجل وعطاء من عطائه.
تَخلّق الشيخ الميداني بأخلاق الإسلام ونال نصيباً كبيراً من مكارم الأخلاق، كان متواضعاً، لطيف المعشر، ودَوداً بَشوشاً، مخلصاً في علمه - إن شاء الله - إذ كان يعزو كل فضل وتوفيق إلى الله، وكان يريد بعمله وجه الله عز وجل، ولا يريد أن يُمدَح وأن يُطرَى بما ألّف وكتب.
دُعي لحفل تكريم في دارةٍ عامرة اشتُهرت بتكريم العلماء والفُضَلاء في جُدّة، وكنت المكلَّف بتبليغه هذه الدعوة، فقال لي: لا أحب أن يمدحني الناس، وإنما أريد أن يتقبّل الله عملي، فقلتُ: إن هذا الحفل يستفيد منه كثير من الناس من علمك ورأيك، وسوف تُسأل أسئلة عديدة وتجيب عنها، فقال لي: هل تضمن لي أن لا أُمدح؟ قلت: لا، فقال: إذن لا أريد حفل التكريم هذا!!
وكان رحمه الله بعيد النظر، لا يُخدع من قريب، ولا يضع نفسه في مَواضع يأسف عليها فيما بعد، فلقد دعته قناة الجزيرة في قطر للمشاركة في برنامج (الاتجاه المعاكس)، فسأل مقدِّم البرنامج: هل من أرضية مشتركة ولو قليلة بيني وبين المحاور؟ فأجابه: لا، فقال: اعفني إذن.
ونِعْمَ ما فعل الشيخ، فلقد كان مُحاوره، كما نشاهده في التلفاز، كاتباً غوغائياً لا يلتزم المنطق، ولا يَصْدر عن أسس فكرية محترمة، وكان ولا يزال يجتهد في محاربة الإسلام ومخاصمة الدين!
* * *
لقد خسر المسلمون في السنوات الأخيرة من الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري عدداً من العلماء والدعاة إلى الله. وإنها وايْم الله لخسارة كبيرة أصابت المسلمين في موتهم، فرحمة الله عليهم أجمعين، وأعلى الله مقامهم، في عليّين.
* * *
لقد مات الشيخ عبد الرحمن بعد أن عانى في سنواته الأخيرة من الأمراض الباطنية، وبعد أن صبر الصبر الجميل على آلامه، مات وهو في أمراضه، ونرجو أن يكون موته على شُعبة من شُعَب الشهادة التي بشّر بها الرسول ؟ (من يموت في مرض من أمراضها).
ولقد ترك الشيخ أبناءً بَرَرةً ذوي اختصاص ونشاط وهم:
- الدكتور الطبيب حسن عبد الرحمن حبنكة الميداني.
- الدكتور الطبيب وائل عبد الرحمن حبنكة الميداني.
- الدكتور محمد عبد الرحمن حبنكة الميداني (وقد نال شهادته العلمية في موضوع العقيدة الإسلامية من جامعة أم القرى).
- الدكتورة صفاء عبد الرحمن حبنكة الميداني (وقد حصلت على الدكتوراه في الفقه الإسلامي).
وكان قد رُزئ قبل وفاته بسنتين تقريباً بزوجته الفاضلة الأستاذة الجامعية (عائدة راغب الجرّاح) رحمها الله، وكانت قد ألفت عن زوجها كتاباً نُشر في سلسلة (علماء ومفكرون معاصرون: لمحات من حياتهم، وتعريف بمؤلفاتهم).
أَيْ أخا الإسلام أبا عبد الرحمن:
لقد نَعيْتَ إليّ نفسَك حين ودّعتُك قبل بضعة أشهر في مدينة جُدّة، وتَلوتَ على مسامعي قولَ الله عزّ وجل: وما تدري نفسٌ ماذا تكسِب غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت، وقلتُ في نفسي في تلك اللحظات: هل هذا هو الوداع الأخير؟
أيها الأخ الراحل: لقد فقدتُ فيك أخاً حبيباً، وأستاذاً كبيراً، وفقد فيك المسلمون معلّماً ناصحاً، وعالِماً جليلاً، فرحمةُ الله عليكَ إلى يوم الدين، وسلامُ الله عليك ورحمته وبركاته، وجمَعنا الله بك في صحْبة رسولنا الأكرم ؟ في دار كرامته. في جَنّة الخلد. اللهم آمين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن