متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
العدل والعصبيات المعاصرة
قبل أن تصل إلى مراقبة الشَّرطة الفرنسيَّة في المطار تعترضك لافتات لإرشاد القادمين من الخارج، ليقف كلٌّ في طابور معيَّن، المسافرون الأوروبّيّون لهم طابور خاصٌّ بهم، والسِّلك الدّبلوماسيّ كذلك، وطابور آخر للمقيمين من ذوي الجنسيّات غير الأوروبّيّة ولذوي الحالات الإداريّة الخاصّة الّتي تتطلّب أسئلة وأبحاثًا معمّقة.. ولا عجب أن ترى الابن ذا الجنسيّة الأوروبّيّة في صفّ ويمرّ من مراقبة الشّرطة في لحظات وجيزة، وأمّه المقيمة بالبلد ولا تحتاج لترتيب إداريّ مختلف عن ابنها تنتظر طويلًا في صفّ غير الأوروبّيّين لكونها تحمل جنسيّة أخرى، هذه الّتي تحتاج إلى سند ابنها في كلّ لحظة!.. قد يقتضي التّرتيب الإداريّ توزيع المسافرين على شبابيك مختلفة، ولكن على أيّ أساس يجب أن يتمَّ هذا التّوزيع؟ ألا يكون الأجدر أن يتمّ اعتبارًا للمصلحة الإداريّة الخادمة للجميع بطريقة عادلة، فتخصّص شبابيك للزّائرين نظرًا لخصوصيّتهم الإداريّة، وأخرى للمقيمين دون النّظر إلى جنسيّاتهم أو أصولهم؟!.. أمّا إذا أمعنت النّظر في الطّوابير كلّها فستلاحظ أنّه لا اعتبار للضّعيف فيها، الشّابّ يتقدّم على المسنّ دون انتباه لضعفه، الأمّ الحاملة لرضيعها أو المصاحبة لأطفال يمكن أن تتأخّر في الصّفّ ولا أحد ينتبه لحالها.. وإذا ما دقَّقت النّظر في الشّعارات الّتي تعلو شبابيك الشّرطة وتزيّن ملابسهم فستذكر حتمًا شعار البلد " حرّيّة مساواة أخوّة "..
وملامح هذا الواقع المتناقض - مع ما يرفع من شعارات - تعيشه كثير من البلاد الغربيّة والعربيّة اليوم بنسب متفاوتة - وإن اختلفت الصّور -هذا الّذي يدفع إلى التّساؤل: هل نجحت النظريّات المعاصرة وكلّ ما يتمّ من إجراءات فعلًا في تحقيق العدل واقعًا وفي ضمائر النّاس وحياتهم؟!.. مهما كانت مشاربهم وأوطانهم؟!..
رفع النّاس اليوم شعارات لا حصر لها بالمساواة ورحمة الضّعيف، وكثرت التّنظيمات والنّظريّات الفكريّة، والأحزاب السّياسيّة، والإبداعات في مجال القانون والفقه، ولكن هل تمكّنت كلّ هذه الإبداعات ـ حتّى في حالة صحّتها -من تحريك الضّمائر وإرساء العدل في القلوب!؟..
أقاموا أعيادًا متعدّدة وأيّاما متنوّعة.. عيد الأمّ وعيد الأب.. ويوم المرأة ويوم الطّفل.. ويوم.. ويوم.. وكثرت الأيّام عليهم إلى أن ابتذلت وتوقّفت عند إرسال باقة ورد بمناسبة عيد الأمّ عبر البريد لأمّ متروكة في مأوى للعُجَّز!!.. وبقيت القيم مجرّد وصايا ومُثُل عُليا لا يتمّ تحقيقها.. ولم يتورّع النّاس -المتحضّر منهم والمتخلّف - عن نزعات العصبيّة؛ كالعصبيّة الإقليميّة، ومنها دعوة "الوطنيّة"، والعصبيّة العنصريّة، ومنها دعوة "القوميّة"، ومنها القول: "أنا فرنسيّ أصيل وأنت فرنسيّ دخيل".. التّمييز بين مواطني البلد الواحد في الخدمات الإنسانيّة، وإهمال المعايير الّتي تحترم القيم والإنسان؛ يُسقِط في عدم العدل، وينتج قسوة لا يُراعى معها الضّعيف، وتُستبعَد الرّحمة..!
و المتأمّل في التّاريخ كلّه، يعلم جيّدًا أنّ البشريّة إلى اليوم لم تعرف منهجًا ارتقى بالإنسان إلى تربية كفِلت العدل للنّاس جميعًا - سواء كانوا من معتنقي هذا المنهج أو من غير معتنقيه - وأقامته حقيقة في الواقع كما حقّقته التّربية الّنبويّة الرّشيدة المعتمدة للتّوجيه الرّبانيّ؛ الّذي يجعل العدل فريضة ترتقي بالنّفس البشريّة إلى سموّ خلقيّ لا يمكن أن يتمّ إلّا بالتّعامل مع الله مباشرة، والتّجرّد له...
(يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون) [المائدة:8].. هذه التّربية التي أنتجت جيلًا قمّة في ضبط النّفس والسّماحة، لا يميل عن العدل؛ ويقيمه مع مَن يحبّ ومَن يبغض.
أعلن الرّسول [ أُسس هذه التّربية في حجّة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيّ عَلَى أَعْجَمِيّ، وَلَا لِعَجَمِيّ عَلَى عَرَبِيّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ؛ إِلَّا بِالتَّقْوَى» [مسند أحمد]. وأوصى بالتراحم: « لن تؤمنوا حتّى تراحموا» قالوا: يا رسول الله، كلّنا رحيم! قال: «إنّه ليس رحمة أحدكم صاحبه، و لكنّها رحمة النّاس، رحمة العامّة» [مسند البزار].. وهكذا يُحفَظ الإنسان فعلًا من السّقوط في ردود الأفعال المؤدّية إلى الظّلم.. ويضمحلّ العداء بين مواطني المجتمع الواحد..
الحياة البشريّة اليوم تحتاج فعلًا إلى العدل المطلق؛ الّذي لا يتأثّر بقرابة أو هوى، ولا يخضع لأيّ لون من العصبيّات، ولا يميل مع المودّة ولا الشّنآن.. العدل المنبثق من قوّة رافع السّماوات والأرض ومرسل الرّسل بالهدى، وهو الأعلم بالأنفع لعباده. ومَن يشعر برقابته سبحانه سيُقوِّم نفسه انقيادًا لمبدعه عن طواعية، ولن يعير اهتمامًا لرضا المشهود لهم أو عليهم، أو لمصلحة فرد أو جماعة.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن