مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.
'غوانتنامو قصتي'.. الحلقة الثانية
قرَّرت أن أدخل في إضراب عن الطعام في وقت تزامن على نحو ما مع افتتاح المعسكر السادس في غوانتانامو. بالنسبة لي كان حفظ الأيام والتواريخ في داخل العنابر والزنازين أمرًا بالغ الأهمية. وعليه، فقد بذلت جهدي، ما استطعت، في متابعته والحرص على تذكُّره؛ مع أنه كان أمرًا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا في بعض الأوقات، خاصة خلال الأيام التي كنت أُحبَس فيها داخل زنازين الحبس الانفرادي المغلقة بالكامل والمظلمة تمامًا وعلى نحو دائم.
إضرابي عن الطعام وافق الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني من العام 2007، بُعيد أيام من انقضاء شهر ديسمبر/كانون الأول للعام 2006. في البدء أخذتُ في تقليل الإصابة من الطعام ثم رُحت أقلِّل من عدد الوجبات اليومية بتناول بعضها وردِّ بعضها.
في تلك الفترة التمهيدية كنت أتناول القليل جدًّا من الطعام على فترات متقطعة، وداومت على ذلك لفترة من الوقت أُصبْتُ خلالها بإمساك حاد صحبته دمامل البواسير. لكنني طوال تلك الفترة التمهيدية كنت أجدِّد عزمي يومًا بعد يوم على ضرورة التوقف التام عن تناول الطعام.
ثم -وعلى ما أذكر- أعلنتُ بعد عيد الأضحى مباشرة إضرابًا تامًّا عن الطعام؛ في السابع من يناير/كانون الثاني 2007، أرسلت رسالة إلى الجنرال طالبتُه فيها بخمسة مطالب قبل أن أرفع إضرابي عن الطعام: أولها: احترام الدِّين، ثانيها: حقُّنا في التمتع بالحقوق التي تنص عليها اتفاقية جنيف الخاصة بالأسرى، ثالثها: إعطاؤنا الحق في المرافعة عن أنفسنا أمام المحاكم المدنية؛ الأمر الذي كفلته لنا المحكمة الأميركية العليا وأقدم الكونغرس على اغتصابه منَّا، المطلب الرابع تمثَّل في إعادة الإخوة الذين تم عزلهم في معسكر إيكو لفترات طويلة، أمَّا المطلب الخامس والأخير فقد نصَّ على ضرورة التحقيق في مقتل المعتقلين الثلاثة الذين قضوا في العاشر من شهر يونيو/حزيران العام 2006. رفعتُ هذه المطالب وأمسكت بعدها عن تناول الطعام مع مطلع فجر السابع من يناير/كانون الثاني 2007.
ولما انقضى الشهر وتأكدوا من أنني سأواصل إضرابي للشهر الثاني الذي كان قد أطل، خاصة وأن وزني كان قد نقص من تسعين كيلو جرامًا إلى ستة وخمسين كيلو جرامًا؛ حينها بدَوْا مجبَرين على نقلي إلى المستشفى وحجزي فيها.
أيضًا كنت أتذكر مصعب بن عُمير حين أمسك الراية بشماله بعد أن قطعوا يمينه ثم أمسكها بعضديه بعد أن بتروا يده اليسرى، كنت أتذكر بطولة عبد الله بن رواحة وبسالة جعفر بن أبي طالب وشجاعة خالد بن الوليد الذي لم يبقَ في جسده شبر إلا وفيه ضربة من سيف أو طعنة من رمح أو رمية من نبل. نعم، وكما قال أرنست همنغواي: يمكنك أن تسحق رجلًا لكنك لا يمكن أن تهزمه.
وحين أُفرغ الأنبوب في معدتي الخالية شعرت بالضبط وكأن جمرة من نار قد نزلت في جوفي وبغتةً، وعلى حين غِرَّة راحوا بتعمُّد وقصد يدفعون الأنبوب داخل رئتيَّ ويفرغوه فيهما، ثم أعقبوا ذلك بقطرات من الماء ملأت رئتيَّ فشرقت وأخذني سعال شديد ثم اختناق شبه تام. لحظتها أحسست بأنني قد دخلت بالفعل في سكرات الموت، فجسمي تغير لونه وامتقع وجهي واضطربت أنفاسي، بينما راح العَرَق يتصبب غزيرًا من كل خلية في جسدي وأعقب ذلك تقيؤ مريع.
وبعد نصف الساعة على وجه التقريب اعتراني ضَرْب من التشوش المصحوب بآلام معوية رهيبة، مضى وقت فتمكنت من التنفس وأفقتُ، ثم شيئًا فشيئًا أخذت أشعر بقليل من النشاط يدب في أعضاء جسمي. ثم إنني ورغم الآلام المتصاعدة من المعدة طلبت منهم -وقد بدت وجوههم كالحة وقسوتهم بادية- أن ينزعوا عنِّي القيد والأصفاد كيما أصلي، غير أنهم رفضوا رفضًا باتًّا متذرِّعين بحجج أمنية عديدة منها أنني قد أقوم بعمل عنيف في حال نزعهم القيود والأصفاد عني! فما كان مني إلا أن سألتهم مستنكرًا: "ما عسى أن يفعل رجل في مثل حالتي هذه؟ لا تتذرعوا بهذه الحجج الأمنية ولكن قولوا لي: إننا لا نريد أن نسمح لك بالصلاة!" ساد الصمت لبرهة ولم يجبني منهم أحد فحمدت الله في نفسي على أنني مضربٌ عن طعام قوم هذه حالهم وتلك صفاتهم.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة