في الثالث من أكتوبر لهذا العام حضرت ندوة في مدينة ميسيساجا الكندية بعنوان: (الحقوق المدنية لمسلمي كندا.. مواجهة التهديدات واحتضان الفرص)، وكان ضيف الشرف المحامي الكندي “دينيس إدني – Dennis Edney” الذي وقف صامداً في أروقة القضاء ضد أعتى حكومات العالم.. حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن بعدها حكومة كندا بقيادة حزب المحافظين المناوئ للمسلمين.
بدأت القصة عندما شاهد دينيس في نشرات الأخبار طفلاً كندياً مسلماً يُدعى “عمر خضر” قد تم أسره وهو لم يتجاوز ١٥ ربيعاً في أرض معارك أفغانستان عام ٢٠٠٢م، حيث وجهت إليه تهم التعاون مع القاعدة والتسبب بقتل جندي أمريكي وجرح آخرين، وزرع ألغام استهدفت قوافل عسكرية أمريكية.
وعلى الرغم من عدم وضوح الأدلة، إلاَّ أنَّ الحكومة الأمريكية عاملته على أنه أسير حرب، وألقت به في سجن غوانتانامو العسكري – سيئ السمعة – وحاكمته أمام محكمة عسكرية… ضاربة بعرض الحائط كل الاتفاقيات الدولية في ما يخص حقوق الإنسان عموماً والأطفال خصوصاً.
وُلد عمر في مدينة تورونتو الكندية لأبوين عربيين، الأم من فلسطين وتدعى “مها السَمنة” والأب من مصر ويدعى “أحمد خضر” الذي قضى في أفغانستان. ويبلغ عمر اليوم ٢٩ عاماً قضى نصفها خلف القضبان متنقلاً من سجن لآخر، وبعد قضاء ١٠ أعوام في سجون أمريكا العسكرية، عاد عمر إلى كندا عام ٢٠١٢م لإكمال فترة عقوبته التي تنتهي عام ٢٠١٨م.
كان الهدف من الندوة التي حضرها ١٥٠ شخصاً من أبناء الجالية الإسلامية، إطلاعنا نحن الكنديين المسلمين على مجريات الأحداث التي تمر بها قضية عمر، وعلى الجهود التي يبذلها دينيس أمام القضاء الأعلى لإحقاق الحق، والتأكيد لنا من أننا قادرون على إحداث التغيير لو فهمنا كيف نستخدم القانون وحقوقنا الدستورية متكاتفين أمام حكومة المحافظين.
التفاني الذي قدمه هذا الرجل لقضية عمر غير مسبوق، فمن دون كلل أو ملل كرَّس دينيس حياته ساعياً لتحقيق العدل والإنصاف وفقاً للقيم الإنسانية النبيلة التي يؤمن بها… من عدالة وحرية وسلام وأمن واحترام وتنوع ووحدة، والمنصوص عليها في الدستور الكندي بكل وضوح.
منذ ١١ عاماً… ودينيس يترافع عن عمر من دون مقابل، كان ينفق على القضية من جيبه الخاص إلى أن بلغت ديونه ٧٠٠ ألف دولار وهو على أبواب التقاعد، وبالرغم من أنَّ العدالة نافذة في المحاكم الغربية، إلاَّ أنَّ الوصول إليها باهظ ومُكلف، أضف إلى ذلك أنه سافر خلال الـ١١ عاماً إلى غوانتانامو أكثر من ٤٠ مرة ليترافع عن عمر، كلها كانت على نفقته الخاصة.
تخيل أنك تقرأ قصة عالم ميكانيك يعكف منذ سنوات على اختراع كلفه الكثير من المال، ويقينه بأهمية هذا الاختراع جعله يستمر في الإنفاق عليه إلى أن اكتمل وأبهر به العالم. وهكذا كان دينيس، كان يُنفق على اختراعه الخاص الذي يريد أن يثبت نجاعته للعالم، اختراع فيه الكثير من الأهداف والرسائل، أهمها أنَّ نفاذ القانون ليس حكراً فقط على الأغنياء والشركات الكبرى، بل أيضاً يمكن له أن يكون نافذاً في خدمة البسطاء من البشر، والحس الإنساني حقيقة وليس خيالاً، فهو لا يحتاج إلى جنسية أو عشيرة كي يظهر إلى الوجود.
تحدث دينيس خلال الندوة عن التعذيب والمعاناة التي عاناها عمر في سجون أمريكا، وذرفت عيناه خلال الحديث كلما تذكر المناظر التي رأه بها في غوانتانامو، حيث أجبروه على أمور لا يمكنني الحديث عنها في هذا المقال، فالسجون العسكرية من أقبح وأقذر السجون في العالم، وقد تقدم دينيس بالطعن لوقف محاكمة عمر أمام محاكم عسكرية، إلا أنها قوبلت بالرفض من المحكمة الأمريكية العليا.
بعدما تم نقل عمر من سجون أمريكا إلى كندا، عارضت حكومة المحافظين بشدة الإفراج عن عمر، وعلى الرغم من ذلك أمرت القاضية “مايرا بيلبي – Myra Bielby” قاضية محكمة الاستئناف في شهر مايو من هذا العام بإخلاء سبيل مشروط، حيث يجب على عمر أن يُقيم في منزل محاميه دينيس، وعدم التجول بين العاشرة ليلاً والسابعة صباحاً.
ومازال دينيس يبهرنا باختراعه، فقد وافق على استقبال عمر في منزله تلبية لشروط الإفراج الذي أمرت به المحكمة، ولأول مرة منذ ١٣ عاماً، بات عمر ليلته الأولى خارج السجن في منزل محاميه في مدينة إدمونتون في مقاطعة ألبرتا، ليُثبت دينيس مرة أخرى للعالم أنَّ الإنسانية ليس لها حدود. فقد خرج عمر من السجن وقد فقد عينه اليسرى، وفي جسده الكثير من الإصابات، ويحتاج إلى الكثير من الدعم النفسي والمادي والرعاية الخاصة والتخطيط للمرحلة القادمة، لكن دينيس لم ينسحب ودوره لم يتوقف، فقد ساعد عمر على العودة إلى الدراسة لتحصيل درجة علمية تعينه على المستقبل، وبجانب دينيس زوجته التي تسانده وتقوم برعاية عمر في بيتها، فلم تنسَ مراعاة أدق التفاصيل كشراء اللحم الحلال له.
هل انتهت المعركة القضائية؟ ليس بعد، فحكومة المحافظين قررت استئناف الحكم والسعي لإعادة عمر لإكمال ما تبقى له من عقوبة داخل جدران السجن إن ربحت الانتخابات الفيدرالية في الأسبوع القادم يوم ١٩ أكتوبر ٢٠١٥م وبقيت في الحكم.
كان لي الشرف خلال الندوة مصافحة دينيس والتحدث إليه عن قرب، وسألته إن كان ينوي تأليف كتاب عن تجربته في الدفاع عن عمر، وأجاب بأنه لا يرغب في ذلك لأنه يتمنى أن ينسى تلك المآسي التي شاهدها خلال السنوات الـ١١، وأنه يتمنى أن تُمحى من ذاكرته من شدة مرارتها. ثم سألته إن كان ينوي دخول الحياة السياسية في كندا، فأجاب بأنَّ السياسة ليست من طموحاته وهو لا يصلح لها ولا يرغب فيها.
لاحظت خلال الندوة أنَّ القائمين عليها جميعهم من المسلمين العجم، فكلهم كانوا محامين كنديين مسلمين من أصول هندية وباكستانية، الأمر الذي جعلني أقف طويلاً أتفكر في الأسباب التي جعلت العرب لا يكترثون لمثل تلك الجهود المجتمعية المهمة جداً، حتى الحضور العربي في تلك الندوة لم يتجاوز أصابع اليدين، والغالبية الساحقة كانوا من أعاجم المسلمين.
في نفس الأسبوع تحدثت مع عربي ناهز الستين من العمر حول قضية “عمر خضر” وحول وقوف المحامي “دينيس إدني” بجانبه طيلة تلك السنوات، وتفاجأت بردة فعله، فقد قال: “لا أملك لعمر أي تعاطف… وليذهب إلى الجحيم”، قلت له: “ألم تعلم أنه كان طفلاً عندما اصطحبه والده إلى أفغانستان؟ والطفل لا يملك من أمره شيئاً، لماذا المجتمع الكندي غير العربي وغير المسلم على استعداد أن يعطي عمر فرصة جديدة ليحيا حياة سوية، بينما نحن العرب لا يمكننا أن نسامح ونعطي مثل تلك الفرصة من جديد؟”.
خرجت من الندوة بفكرة أتمنى أن تُخطّ بماء الذهب، فحواها: (لو وسَّع كل فرد منَّا نطاق مسؤولياته واهتماماته خارج جدران منزله بضعة أمتار لتحسَّن حال الأمة بقدر ذلك التوسع)، وكلما بقينا لا نهتم إلاَّ لشؤوننا الخاصة غير مكترثين بما يجري في مجتمعنا من مصائب سننتهي إلى أسوأ مما نحن عليه اليوم، وأشد ما أخشاه أن تنتهي الحياة قبل أن يُدرك مواطنو العالم الثالث أنهم ليسوا أفضل مَن على الأرض، وأنَّ هنالك أمماً أخرى لا تؤمن بالله تحيا حياة أفضل من حياتهم، والأمر ليس دعوة للردة إنما دعوة للمراجعة، فما دمنا على ما نحن عليه اليوم وهم على ما هم عليه، فلا يوجد مجال للشك بأننا لم نعد أفضل أمة أخرجت للناس.
ملاحظة: لمن يريد المزيد حول قضية “عمر خضر”، يمكن مشاهدة وثائقي الجزيرة التالي بعنوان “تحت المجهر: طفل غوانتانامو – عمر خضر”.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة