الواجبات البيتية بين مؤيد ومعارض
في أحد الأيام، وبعد طول جدال في المدرسة، قرَّر المدير إجراء تجربة جريئة؛ وهي إعفاء جميع الطلاب من الواجبات البيتيَّة ولمدة طويلة، وذلك بناءً على رأي الأهل وكثرة شكواهم من الوظائف بعد الدَّوام المدرسيِّ. لم يكن مقتنعاً بالفكرة، ولكنَّه أراد الوصول إلى قرار صائب يضبط العملية التربوية في مدرَسته، فكان لا بدَّ من التجربة، وكما يقولون: "التجربة أكبر برهان".
مضتِ الأيام والشهور والأهل يزغردون ويدعون للمدير بطول العمر والسعادة، كيف لا وقد أدخل الفرحة إلى قلوبهم وقلوب أولادهم، لم يعد هناك أيّ اعتراض على أيِّ شيء، الكلُّ راض والكلُّ موافق، ولا يَخْلُ الأمر من بعض الأهل الذين يتابعون أولادهم بشكل يومي، وكان رأيهم أن هذا القرار من أخطر القرارات التي اتخذتها المدرسة. ولكن لم يأخذ أحد برأيهم لأن عددهم قليل، ولأنَّ المدير كان مُصِرّاً على الاستمرار في التجربة حتى تتضح الأمور.
انتهت الفترة المحدَّدة لهذه التجربة، وطلب المدير من المعلمين إجراء تقييمٍ شاملٍ لجميع الطُّلاب، وكانت المفاجأة. معظم الــطُّلاب في تأخُّرٍ واضحٍ ومُلفتٍ للنظر، هذا ما عدا أنَّ المعلمين متعبون بشكلٍ كبير. ففي غياب الواجبات البيتيَّة وقعت على كاهلهم أمورٌ كثيرةٌ لم تكن في الحسبان، حتى إنهم لم يستطيعوا تحقيق كلِّ المنهج المطلوب في هذه الفترة بحسب التوزيع السنوي.
تُرى ما الذي حدث في غياب الواجبات البيتيَّة؟
كانت التجربة مثمرة للغاية، لأنها كشفت الغطاء عن حقيقةٍ لم تكن واضحةً للعيان، وهي أنَّ الوظيفة المنزلية هي صِمَام الأمان للعمليَّة التعليميَّة والتربويَّة. ولقد توصَّل المدير أخيراً للقرار الصائب وجعل الوظيفة اليوميَّة إجباريَّة في كلِّ الصفوف، ولكن مع وضع معايير خاصة تضمن سلامة التطبيق.
ما الذي حدث أثناء التجربة؟ الطُّلاب رجعوا إلى منازلهم وتناولوا وجبة الغداء، منهم من جلس إلى التلفاز والهاتف أو إلى الألعاب الالكترونية بدون حسيب أو رقيب. وكان للواتس آب والفيس بوك والانستغرام حصَّة الأسد. ومنهم مَن لجأ إلى النوم ليرتاح من عناء الدراسة. كما أن عدداً كبيراً من الشباب وجدها فرصة لتعاطي الأركيلة في البيت أو مع الرفاق في المقهى المجاور. وبالمقابل كان هناك من يعاني من الأهل، فالأمُّ التي أصرَّت على التدريس بعد الدوام تجرَّعت الألم والصبر وهي تُجبر أولادها على القيام ببعض الوظائف لأنهم شعروا بالظلم وعدم المساواة.
مجتمعنا ليس مؤهَّلاً إلى الآن لإدارة ساعات الفراغ. لو أنَّ الأهل استغلوا هذه الفرصة بطريقة صحيحة، أي عن طريق وضع برنامج للاستفادة من هذا الوقت بشكل فعَّال، على سبيل المثال: المطالعة، الرياضة، النوادي، ممارسة الهوايات المختلفة التي تتَّفق مع توجُّه الطالب ونوع ذكائه، الانتساب إلى الجمعيات أو العمــــــــــل التطوعـــي، النزهات والزيارات الهادفة، الألعاب التربويَّة، عمل الأبحاث والمشاريع، مساعدة الأولاد للأهل في البيت، وتعويدهم على قضاء حوائجهم بأنفسهم والاعتماد على أنفسهم في شتى الأمور؛ لكانت النتائج غير ذلك، ولكن مع هذا التسيُّب الخطير في مجتمعاتنا نستطيع أن نقول: إن الواجبات البيتيَّة حتى لو كثُرت؛ هي أفضل بكثير من العيش في الفراغ القاتل.
كل عمل يُكلَّف به المتعلِّم للقيام به في البيت أو خارج الصف يهدف إلى صقل شخصيَّة الطالب، ويجعله ينمو نموّاً شاملاً متكاملاً بكيانه وشخصيَّته. فالواجبات البيتية تهدف إلى تعزيز المفاهيم الأساسية الواردة في المواد الدِّراسيــــــــَّة، وذلك بإعطاء تدريبـــــــــات وتطبيقات يقوم بها المتعلِّم في البيت إضافة لما طُبِّق داخل الصف. هذا ما عدا ما يكتسبه الطالب من التعلُّم الذاتي، ناهيكم عن تعميق ثقافة الجيل من خلال الواجبات التي تعتمد على البحث والدِّراسة وتقديم التقارير والأبحاث التي لها صلة بالمنهج والكتَاب المدرسيِّ، إضافة إلى تطوير المهارات الضرورية لنمو المتعلِّم في كافة المجالات.
إنَّ مَن يحاربون فكرة الواجبات البيتيَّة إنَّما يحاربون الممارسات الخاطئة فقط، وليس الفكرة بحدِّ ذاتها. فعندما تصبح الواجبات عشوائيةً وبدون معايير، وعندما يحوِّلها المعلِّم إلى وسيلة عقاب، أو يصوِّرها الأهل على أنَّها خطأ تربوي _ وذلك على مَسمع من أولادهم _ تصبح الواجبات في الحلقة الأضعف من العمليَّة التربوية.
ولتحقِّق الواجبات البيتيَّة أهدافها لا بدَّ من أن تتَّصف بما يلي:
ـ أن يكون الواجب البيتيُّ مرتبطاً بهدف، وتوجيه المتعلِّم إلى مصادر البحث والدِّراسة.
ـ أن يدرك المعلِّم والطالب والأهل أهميَّة الواجب والأجندة اليوميَّة وما لها من تأثير إيجابي على حياة المتعلِّم.
ـ أن يتناسب الواجب البيتيُّ مع قدرات الطالب، ويعمل على إشباع ميوله ورغباته.
ـ التنوُّع في الواجبات، فالأذكياء بحاجة إلى واجبات تتحدَّى مواهبهم وقدراتهم بحيث تظهر قدراتهم على الابتكار والإبداع، ولكنَّ الضعاف بحاجة إلى واجبات تعمل على تلافي ضعفهم وسدِّ الثغرات في تعلُّمهم الصفِّي.
ـ أن تكون الوظيفة في حدود مستوى فهْم الطالب، فلا يعطى الواجب البيتي على مهارة لم يفهمها الطالب ولا زالت في مراحل الشرح الأولى.
ـ ألَّا يكون الواجب البيتي مكلفاً ماديّاً.
ـ أن يكون فيه نوع من التجديد بحيث يتوافر فيه عنصر جذب للطالب.
ـ أن يهتمَّ المعلِّم في متابعة الواجبات عن طريق التقييم والتصحيح والتحفيز والثواب والعقاب بطريقة تدفع الطالب للاهتمام بحلِّ الوظائف.
كل المواضيع العالقة في حياتنا التي ربما نعتقد عدم وجود حلول لها إنَّما هي نتيجة لمواقفنا السلبية في تسيير أمورنا! دائماً نستسلم وننتقد دون المحاولة في مواجهة التحدِّيات وتصحيح مسارها. نحن بحاجة للقاء حول طاولة مستديرة: الطالب، الأهل، المدير، المعلِّم، وكلمة حقٍّ تُقال.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن