لماذا تعدَّدَ الآباء المزعومون لانتصار القدس؟
ثمة حقيقة قلّ أن يختلف عليها اثنان، وهي أن تاريخ الأنظمة العربية لم يشهد تسجيل إنجاز سياسي أو عسكري يستحق الفخر والتبجيل الحقيقيين من الشعوب، بعيداً عن معلَقات النفاق والزيف التي تغطي واجهات إعلامها الرسمي، فالقائمون على هذه الواجهات غير مقتنعين بما يكتبونه أو يقولونه أو يروّجون له، لكن متطلبات الارتزاق لها اعتباراتها عندهم؛ بل إن قادة هذه الأنظمة أنفسهم يعلمون أكثر من المصفقين لهم حجم خيبتهم ووضاعة همّتهم ودنوّ سقفها، في مقابل تضخم هوانهم وذلّتهم واتجاههم المستمر نحو مسارات الانحدار والتضاؤل.
في ظل حقيقة كهذه كان طبيعياً أن يتوقع القائمون على الأنظمة الرسمية فشل المعركة التي جرت في القدس حول المسجد الأقصى، وكان هدفها حمل الاحتلال على التراجع عن إجراءاته المستجدّة في الأقصى بعد عملية الجبارين الثلاثة، ولذلك كانت هناك نغمة يعزفها إعلام تلك الأنظمة -على استحياء- خلال اعتصام الشارع المقدسي، مفادها أنه لا بأس بوجود البوابات الإلكترونية، وأنها ليست مشكلة ما دام سيتاح الدخول إلى المسجد الأقصى، بل إن هناك من رأى أن المقدسيين يخوضون معركة عبثية ولا تستحق كل هذا الحشد والتفرّغ والجهد، لأن من رأى ذلك اعتقد بأن الاحتلال لا يمكنه أن يتراجع عن إجراءاته، أو قدّرَ أن القضية لا تستحق عناداً كهذا، ما دامت الصلاة في الأقصى ستكون متاحة في كل الأحوال، حتى لو اضطر المصلون للخضوع للبوابات الإلكترونية.
ثم كانت المفاجأة بأن تفوّقت إرادة الصمود والإصرار والثبات على عنجهية الاحتلال، وكان أن هزمت صلواتُ المقدسيين في الشوارع وحول بوابات الأقصى نِصالَ النجمة السداسية وهي تحيط بهم من كل اتجاه لتذكّرهم بأن التهويد قد غزا المكان حتى غيّر معالمه وسطا على طهره، ولم يبق أمام اكتمال مشروعه غير السيطرة على تلك المساحة التي يشغلها الحرم المقدسي.
كان اليقين غمر تلك القلوب المتحلقة حول أسوار وبوابات الحرم القدسي، فثبّت أقدام كل تلك الجموع التي كانت تنطق بلسان واحد وتقرر مطالب واحدة وتتحدث من حنجرة واحدة، فلم تتماسك أمامها كل موجات التخذيل التي حاول إعلام الأنظمة الرسمية العربية بثّها بينهم، إلى أن تحقق الانتصار المرحلي في تلك الجولة المهمة، فتراجع الاحتلال عن جميع إجراءاته المستجدة، وخاب فأل الذين ظلّ جبنهم وتواطؤهم مع العدو مستتراً بسبب خشيتهم من ذلك السطوع الذي أجزَع كل نفس مرتعشة وألجمها ومنعها من نشر زيفها.
وحين انجلت أيام الصمود عن لحظة انتصار جليلة وجميلة وعزيزة؛ سارع المفلسون إلى التمسح بها، وادعاء أبوّتهم لذلك الإنجاز، وساعدهم بطبيعة الحال إعلامهم السفيه وبطانتهم المنافقة، والموظفون لديهم من إعلاميين وفقهاء بلاط. وكان كل ما يلزم أن يبثّ أولئك أكذوبتهم ثم يصدقوها، وأن يستمتعوا بتصدر (هاشتاغات) التزوير والتلفيق موقع تويتر في العالم العربي، رغم أن غالبية التغريدات فيها كانت استهزاءً بهم وفضحاً لأكذوبتهم الكبرى بادعاء تراجع الاحتلال عن إجراءاته كنتيجة لجهودهم، بينما كان بعضهم يمضي إجازة الصيف مستجماً على الشواطئ خلال اعتصام المقدسيين.
لم يخجل قادة الأنظمة الأكثر إذعاناً في العالم العربي ومعهم عبيدهم من تبني انتصار القدس، وقد فعلت مثلهم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، حتى إذا ما حاول المرء أن يجد رابطاً يجمع بين كل هؤلاء الأفاكين لا يجد غير الإفلاس من الإنجازات، وخذلان القدس، والشعور بالازدراء من الشريحة الحية في شعوبهم. فكان لا بد لهم من معالجة ذلك كله عبر ادعاء البطولة وركوب موجة الانتصار المقدسي، لأن نجمته كانت عالية ومشاهدة من كل مكان، ولأنه أبهج النفوس بقدر ما علّمها دروساً كثيرة حول مكامن قوة الجماهير، ونقاط ضعف عدوها.
تبارى الراسبون في معركة القدس في نسبة إنجازها لأنفسهم، بعد أن غاب عنهم أنهم سيواجَهون بإدانة وازدراء واسعين، مع سيل من الأسئلة الاستنكارية والتهكمية حول تقاعسهم عن نصرة فلسطين سابقاً ثم لاحقاً ما داموا قد حازوا مفاتيح إرغام المحتل الصهيوني على التراجع كما يزعمون. فلماذا لم تثمر جهودهم منذ نحو سبعين عاماً في إرجاع شبر واحد من فلسطين؟ ولماذا لم يفلحوا في وقف مجازر الحرب في غزة عبر ثلاثة حروب؟ ولماذا ولماذا ولماذا؟ أسئلة كثيرة تفنن مستهجنو إفكَ هذه الأنظمة في طرحها، لكنها وعبيدها من المرتزقة لم يكونوا معنيين بالإجابة، لأن ما يهمهم هو أن يستمعوا فقط لمن يدلّس عليهم، ويرمم صدع ضمائرهم المريضة، ويلفق الافتراءات ويبثها في فضاءات الإعلام العامة، حتى مع يقينهم بأن المغفلين وحدهم من سيصدقونها ويصدقونهم.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن