العرب .. ومأساة الروهنجيا
كنّا صغارا على الاهتمام بمتابعة الأحداث العالمية، إلا أن الشاشة الصغيرة التي لم تعرف بعدُ القنوات الفضائية، كانت كفيلة بأن نركز على مضمونها البسيط وموادها القليلة.
كنا نلحظ اهتماما غير عادي من الإعلام بقوم يقال لهم (الأفغان) يُطلُّون علينا في نشرات الأخبار وهم يحملون أسلحتهم ويسيرون في الجبال، ثم نسمع دويّ القذائف ونشاهد أعمدة الدخان، في مشاهد يومية اعتدنا عليها، وفسّر لنا الكبار، فقالوا إن هؤلاء الأفغان مسلمون مثلنا، احتل السوفييت الشيوعيون وطنهم، وهم يدافعون عنه، ونحن نؤيدهم لأنهم جزء من أمتنا.
مرت أعوام وانتهى الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، ولم تنْتهِ تفاصيل الحكاية، فعلمنا أن الحكومات العربية كانت تمدُّ الأفغان بالمال والسلاح والرجال، وكان المقاتلون العرب يسافرون بكل حرية من بلادهم إلى أفغانستان، ذهابا وإيابا، من دون أن يتعرّض لهم أحد. مرت أعوام أخرى لنعلم أنها لم تكن يقظة إسلامية، وإنما كانت الأنظمة العربية تدور في فلك المصالح الأمريكية، وأن واشنطن أعطت الضوء الأخضر لمساعدة الأفغان ضد منافسها السوفييتي.
الولايات المتحدة اليوم لا مصلحة لها في إيقاف الإرهاب الذي يمارسه جيش بورما بالتعاون مع المتطرفين البوذيين ضد مسلمي الروهينجا، ومِن ثَمَّ لن تتحرك.
وليس في ذلك ما يُثير الدهشة، إنما الذي يضع العديد من علامات الاستفهام بحق، هو الموقف العربي المُخزي تجاه الأزمة، لماذا يقف العرب موقف المتفرج مُكْتفين بالشجب والاستنكار؟ لماذا ظهر الموقف العربي بهذا الضعف الذي يتساوى مع الموقف الغربي، ولا نبالغ إن قلنا بأن بعض الدول الغربية كان ردّ فعلها أحسن حالا من العرب، بل كانت الطامة الكبرى عندما خرج من العرب من يُشكّك في تفاصيل الأزمة التي تتناقلها وسائل الإعلام العالمية، ويُروِّج إلى أنها أكاذيب، الغرض منها إثارة العاطفة الإسلامية، والأدهى والأمرُّ من ذلك وصف بعضهم للمسلمين المضطهدين بأنهم متمردون على السلطات.
من وجهة نظري ترجع أسباب هذا التقاعُس والتخاذل إلى سببين رئيسيين:
*السبب الأول هو غياب مفهوم الأمة الإسلامية على الصعيدين الرسمي والشعبي، فبعد أن ظلّ العالم الإسلامي بعرَبِهِ وعجَمِهِ يلْتفُّ حول راية واحدة، ويتعامل على أساس أن لُغته وعِرقيته جزءٌ من الإطار الإسلامي العام، برزت الدعوات القومية والعِرقِية التي فتّتتْ وحدة الإسلام، وترتَّب على ذلك صنع فجوات كبيرة بين مسلمي العرب ومسلمي العجم، بل بين العرب والعرب أنفسهم. لم يقتصر غياب هذا المفهوم (أو تغييبه) على الأنظمة والحكومات فحسب، بل انسحب مع مرور الوقت على الشعوب العربية، التي بات اهتمامها بأمر المسلمين من غير العرب ضعيفا للغاية، إلى درجة أن كثيرا من العرب على جهل تام بالأقليات المسلمة ومعاناتها في مختلف أرجاء العالم، وحتى شعارات العروبة والقومية التي رفعناها لم نعمل بمقتضاها، وللقارئ أن يسأل مستنكرا: وهل قدّم العرب شيئا إزاء الأزمات التي تضرب الدول العربية ذاتها؟ وهذا حق صراح، لكنها على الأقل تحرّكت في بعض الملفات تحقيقا لمصالح أمنها القومي وتحقيق بعض المكاسب السياسية.
*السبب الثاني هو الاستجابة العربية لفزاعة الإرهاب، فلئن كانت الجماهير تُنادي بالتدخل لوضع حد للإرهاب ضد الروهينجا، فإن الأنظمة تتخوّف من دعم أي تجمعات إسلامية خارج الحدود، خشية أن تُتهم بدعم الإرهاب، هم يريدون أن يُوصلوا للبيت الأبيض والغرب عموما أنهم لا يتعاملون مع الأحداث العالمية انطلاقا من نزعة إسلامية، حتى إن كان التدخل يُمثِّل مطالب الشعوب. لقد كان للعرب الدور الأكبر في صناعة هذه الفزاعة التي قيّدتهم وكبّلتهم، وظنوا أن الانبطاح يكفُل لهم الأمان في عالم لا يعرف غير لغة القوة، هي وحدها ما يَردَع الآخرين، وليس أدلُّ على ذلك من كوريا وتطوير قوتها النووية التي أفزعت الكبار، من دون حاجتها إلى الخضوع.
العرب يفسحون الطريق أمام الغرب للتمادي في سياسة الابتزاز بورقة الإرهاب، فلم تكن السعودية، على سبيل المثال، داعمة للإرهاب والتطرف، وعلى الرغم من ذلك هُوجمت بقوة واتُّهِمت بدعم الإرهاب، وسعت أمريكا لابتزازها عبر «قانون جاستا». كل من يتعامل مع المسلمين من غير العرب، يلحظ فيهم إجلالا لمسلمي العرب، فهم يرون فيهم أحفاد الصحابة، وصُلْب الإسلام، وحاملي ذلك المشعل إلى بقاع العالم، لكن هؤلاء المسلمين الذين يعيشون كأقليات مضطهدة في الشرق والغرب، أصبحوا ضحايا الصمت العربي بعد أن تشرذم العرب أنفسهم وتناحروا وافترقوا.
الموقف التركي هو الأكثر إيجابية بين دول العالم الإسلامي تجاه الأزمة، البعض يفسره بأنه ناتج عن العاطفة الإسلامية، باعتبار الجذور الإسلامية لأردوغان والحزب الحاكم، والبعض الآخر يرى أن تركيا تبحث عن مصالحها خارج الحدود، ومنهم من يرى أنه مزيج بين الأمرين ولا يتعارض أحدهما مع الآخر. وسواء كان هذا أو ذاك، فالمهم أنها تتحرك بإيجابية تجاه الأزمة، وكان الرئيس التركي من الذكاء السياسي بمكان، حيث أظهر لشعبه وثيقة تاريخية تفيد بمساعدة مسلمي الروهينجا للدولة العثمانية، وكأنه يرغب في نيْل مزيد من التأييد الشعبي لدعم مسلمي بورما بِمنطق رد الجميل.
فليت العرب يتّجِهون لإنهاء الأزمة بدافع المصلحة السياسية المرجوة من خلال القيام بأدوار إيجابية في منطقة جنوب شرق آسيا فلن يُلاموا، وليتهم يتّجِهون إليها بدافع إنساني يضاهي تعاطفهم مع ضحايا «شارلي إيبدو» .
ليت مسلمي الروهينجا الفارّين من القتل يظفرون بشيء من التحركات الإنسانية الإماراتية تجاه الولايات المتحدة، حين تبرعت أبوظبي بما يزيد عن عشرة مليارات لولاية أريزونا الأمريكية بعدما ضربها الإعصار عام 2008، وقامت بإعمار مدارس الولاية، هو بالطبع موقف طيب، فقط إذا كان نَهْجًا عاما في التعامل مع المنكوبين، بمن فيهم أهل الإسلام والعروبة.
العرب لديهم العديد من أوراق الضغط على حكومة بورما لوقف القتل والتهجير والتطهير العرقي، لكنهم غارقون في خلافاتهم الداخلية والتسابق لتأمين بلادهم من خلال التقرب من سماسرة البيت الأبيض.
كاتبة أردنية
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن