ثورات الربيع العربي
هذا المقال كتبته عام 2011 بعد ما سُمِّيَ بثورات الربيع العربي .. وبما أن الكلام اليوم كثير حول نفس الموضوع ، خاصة من نجوم الفضائيات ، وخاصة أنهم يدندنون حول نفس الحديث ، ومع أنه وبفضل الله نُشر على كثير من المواقع ، ولكن لأن كثيراً من متابعي صفحتي لم يطلعوا عليه كما أرجح فقد رأيت إعادة نشره اليوم .
.
على أنني أضيف إليه ما يلي :-
إنَّ الأحاديث الصحيحة التي تأمر بالطاعة تتحدث عن استثناءات وتجاوزات تقع من الحاكم مرة أو مرتين ، هنا أو هناك ، بصورة فردية ! ولا تتحدث عن (تنظيم) الجَوْر ، ومأسسة الظلم ! لا تتحدث عن حاكم يُقننُ التعدي على شعبه ، وسلب أموال الأمة من خلال وزارات ودوائر وقوانين بل وشريعة ! يُفصِّلُها على قياسه منتدى ( بلعم بن باعوراء لامتطاء الشعوب ) ! تتحدث عن حاكم مسلم يحكم بالشريعة تقع منه تجاوزات ، تتحدث عن حاكم مسلم وصل إلى الحكم بإرادة الأمة ، ولم يفرضه الاستعمار !
كيف تأمر الشريعة التي جاءت لرفع الظلم ، وتحقيق العدل بالرضا بالظلم المُمَنْهج ؟ كيف تطلب هذه الشريعة من أتباعها أن يسلموا رقابهم لجلاديهم ، وهي التي اعتبرت كلَّ من مات دون كليات الشريعة الخمسة شهيداً ؟!!
.
والآن إلى المقال القديم الجديد
وإن جلد ظهرك ...!!!
وراء كلِّ طاغيةٍ عَمامَةٌ...!! أو لفَّة أو أيَّـاً كان شكل غطاء الرأس بحسب الزي الرسمي لأوقاف جلادي الظهور في العالم الإسلامي .. وراء كل طاغية عمامة تـنشر بين الناس الوهمَ ، وتُوزِّعُ عليهم المخدرات بثوب شرعي ...
وراء كلِّ طاغيةٍ عمامةٌ تُمارس فقه الإتجاه الواحد، وتضع الإسلام في حَرَجٍ عندما تُـصِرُّ على مُمارسة قولِ نصفِ الحقِّ ، وبيانِ جزءٍ من الحقيقة ...
بعد سقوط بــن علي طاغية تونس، تكلَّمَ الكثيرون مدلياً كلٌّ بِدلْوهِ ، وكان ممن تكلم طائفة من الناس ، لا نقاش في أنَّ لهم الحق بأن يُدلوا كما الناسُ أدلوا ، وأن يذكروا مخاوفهم مما يمكن أن يحصل إنْ في تونس وإنْ في غيرها من تداعيات سقوط الحكومات .... لهم ذلك .
.
لكن ليس لهم أن يناقضوا الفطرة التي ترفض الظلم ، وتسعى للردِّ عليه، والانقلاب ضده ليس لهم أن يُسفِّهُوا أصل فكرة حقِّ الشعوب في نيل مراتب السيادة ( سيد الشهداء حمزة ... )، ليس لهم أن يمنعوا الناس حتى من قول الآه ... ثم بعد ذلك كله يُـلصقون هذا الهُراء بالشرع ! فكأنهم يضعون الشرع في دور مُخدرِ الشعوب ، ويُظهرون المُتحدثين باسم الشرع وكأنهم بلعم بن باعوراء مفتي فرعون ذلك الذي :" .. آتيناهُ آياتنا فانسلخ منها ، فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين " (الأعراف:175) . وانسلاخه كان بأنه باع علمه بثمن بخس ، وصار يُوظفه في تمرير الظلم على الناس ، فقد كان يقول للناس بعد أن يَرْكَبُهُم فرعونُ : تحمَّلوا فإنما هي أقدار!! على أنَّ كثيراً من الذين أعنيهم لم يبيعوا ولم يشتروا وإنما هي العقـول العجيبة ، وحسبي هذا القول !
.
ذُهلت عندما استمعتُ لأحدهم وهو يخطب في الناس عن ضرورة تحمل الظلم والظالمين ، وأنه لا ينبغي عليهم أن يرفضوا الظلم وأكل أموال الأمة لأنَّ الفوضى هي البديل ، بل لا بد من الصبر ، وقد أيد صاحبُنا فكرتَه بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه صلى الله عليه وسلم فيما يقول : " .... فإن رأيتَ يومئذ خليفةً في الأرض فالزمه ، وإن نَهَكَ جسمك ، وأخذ مالك ... " الحديث .. وهذا الحديث مشهورٌ عند أعوانِ رُكوبِ البشر، يَستـشهدون به كلما سمعوا شاكياً "أنْ قد أغرَقَنا فيضُ النجاسة "، وثقل الحمل ، وبلغت الحلقوم .
.
لذلك كان لا بدَّ من مناقشة دليلهم لأنَّ المسألة ليست بسيطة ، إذ فيها نسبةُ قولٍ فظيعٍ إلى الشريعة ! فهل هذا الحديث صحيح سنداً ؟ حتى لا يُقال عنا عقلانيون ! وهل هو صحيح متــناً ؟ وقبل البدء أنبه على أنني لست بصدد تحليل الأحداث ، أو الكلام على تفاصيل الأمور ، وهل ما يحصل هنا وهناك من دول العالم الإسلامي صحيح أم لا ... فموضوعي فقط هو الرد على من يناطح الحقَّ الفطريَّ للإنسان في رفضه للظلم ، ومنعه من أن يأكل أحدٌ ماله ، وينتهك حقوقه .
.
فاقول :- النَّصُّ الذي يستشهد به هؤلاء زيادة ضعيفة منكرة على متن حديث صحيح مشهور متفق على صحته رواه الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه ، وهو الحديث الذي أوله :- " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني ... " الحديث ...
.
ثمَّ إنَّ مسلماً رحمه الله رواه بعد سوقه النَّصَّ الصحيح بهذه الزيادة (الإمارة / حديث 52 ) عن أبي سلاَّم قال : قال حــذيفة ... وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ... تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضُرب ظهرك ، وأُخذ مالك فاسمع وأطع " .
وهذه الزيادة بهذا السند ضعيفة (بل ومنكرة كما سيأتي) ،لأنَّ أبا سلاَّم هذا لم يسمع حذيفة رضي الله عنه، قال الدارقطني رحمه الله : " وهذا عندي مرسل لأن أبا سلَّام لم يسمع حذيفة " (الالزامات والتتبع:257 ) .
.
قال النووي رحمه الله تعليقاً على كلام الدارقطني رحمه الله :-" وهو كما قال الدارقطني " لكنه قال بعد ذلك :" لكن المتن صحيح متصل بالطريق الأول ، وإنما أتى به مسلم بهذا متابعة كما ترى ، وقد قُـلنا في الفصول وغيرها إنَّ الحديث المُرسل إذا روي من طريق آخر متصلاً تَـبَـيَّـنَا صحةَ المُرسل ، وجاز الاحتجاج به ، ويصير في المسألة حديثان صحيحان " (النووي على مسلم).
.
وليس الأمر كما قال رحمه الله فقد فاتته دقيقة من دقائق علم الحديث نبَّه إليها المحققون من علماء الحديث ، وكثيراً ما كان الشيخ الألباني رحمه الله ينبه إليها، وهي أنَّ الطريق الذي فيه ضعف يسير (كالإرسال مثلاً) إذا روي من طريق آخر صحيح تبينا صحة المرسل شرط ألا تكون فيه زيادة تضيف حكماً .. نعم أصل الحديث ثابت لكن هذه الزيادة لا تصح لأنها جاءت بسند منقطع .
.
قال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله محقق الالزامات والتتبع :- " هذا وفي حديث حذيفة هذا زيادة ليست في حديث حذيفة المتـفق عليه وهي قوله :" وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك " فهذه الزيادة ضعيفة لأنها من هذه الطريق المنقطعة والله أعلم " (الحاشية:258)
وهذا الطريق اتى به مسلم رحمه الله متابعة كما قال النووي رحمه الله ، لكنه أتى به ليبين علته فقد صرح في أول صحيحه أنه سيذكر بعض الأحاديث ليبين علتها ، وهذا منها ، إذ يبعد أن يغيب عن مسلم رحمه الله أن أبا سلَّام لم يسمع حذيفةَ رضي الله عنه .
.
وقد روى الحديثَ أيضاً أبو داود وأحمدُ عن سبيع بن خالد وهو كما ذكر ابن حجر رحمه الله مقبول ، يعني عندما يتابع ، ولا متابع له في هذه الزيادة ، فالحديث لا يرقى رتبة الحسن وإن حاول الشيخ الألباني رحمه الله أن يُنْعِشَهُ ويرفعه لرتبة الحسن ، وهيهات !!
أما أنَّ هذه الزيادة منكرة فلأنَّها تخالفُ الشريعة التي جاءت لرفع الظلم عن الناس ، ولتبعث حياة العزة والرفعة في الخلق ، الشريعة التي تُعلِّق فساد الأمم على وجود الظلم ، وتضع المظلوم الراضي بالظلم في مرتبة الظالم الممارس له ...قال الله تعالى :- " وإذ يتحاجون في النار ، فيقول الضعفاء للذين استكبروا :- إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ؟* قال الذين استكبروا :- إنا كل فيها ، إن الله قد حكم بين العباد*" (غافر:47،48) . هذه الشريعة سمَّت المستَضعفَين الذين لا يتحركون ضد الظلم ظالمين ، ولم تــقبل أعذارهم ، فقال الله تعالى :- " إن الذين توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا :- فيم كنتم ؟ قالوا :- كنا مستضعفين في الأرض .."(النساء:97)
.
هل يعقل أن تقول الشريعة هذا ، ورسولها يقول :- " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " . والنصوص في هذا كثيرة ، وما أشرت إليه كافٍ ، فالشريعة في نصوصها ومقاصدها تحث على رفض الظلم ، وتأبى أن يسكت الناس عن الظالمين . فهل يعقل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يتسامح في أكل ماله ، وجلد ظهره ؟! هذا من عجائب المسلمين الذين سوغوا السكوت عن الظلم ، وأطَّروه في صياغة شرعية حتى قال أحد العلماء:-
" فيه الصبر على المقدور ، والرضى بالقضاء حُلْوِهِ ومُرِّهِ والتسليم لمراد الرب العليم الحكيم " !!! لا عجب أن الأمة تسامُ الخَسْفَ منذ قرون !
.
أين هذا من كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للناس عندما بويعا للخلافة ، حيث يأمران الناس بأن يقوموهما بالسيف إذا رأوا منهم اعوجاجاً ... هل يُعقل أن يكون منهج الصحابة نزع يد الطاعة من أجل ذراع قماش ، أعني هذا الذي قال لعمر رضي الله عنه :- لا سمع ولا طاعة من أجل ثوب كما في القصة المعروفة ، ولم يقل له أحد من الصحابة :- ويحك أمن أجل ثوب ؟! بل عليك أن تسمع وتطيع .. ولم يقل له عمر رضي الله عنه :- بل تسمع وتطيع رغمــاً عنك أيها المُنْدَس ، يا صاحب الأجندة الخارجية ، أيها المخالف لرسولك الذي أمرك بأن تسمع وتطيع حتى ولو سرقتكم .. لم يقل له أحدٌ هذا ولا ذاك ، بل قال له الفاروق :- لا خير فيكم إن لم تقولوها ، ولا خير فينا إن لم نسمعها .
وأخيراً أقول :- على فرض صحة هذه الزيادة ، فقطعاً ليس المقصود ما يفهمه هؤلاء ، بل المقصود المبالغة في طاعة الحاكم المسلم العادل ، وعدم المبادرة إلى الخروج عليه عند اختلاف وجهات النظر في تحقيق محل الظلم .. أي أن الحديث لا يتحدث عن أكل المليارات ، ولا عن منهجة التعذيب والظلم والتجبر . والله أعلم .
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة