العناية بالعلماء في الحضارة الإسلامية
لا يقِلُّ دور الدولة في تنشئة العلماء عن دور الأسرة، بل إن دورها قد يفوق دور الأسرة في أحيانٍ كثيرة.. وقد يكون لزامًا على الدولة في سبيل بناء نهضتها، وفي سبيل قيادة مسيرتها نحو التقدم والاستقلالية، والبعد عن ذُلِّ التبعية، أن تحوز نصيب الأسد في كفالة العلماء، ورعايتهم وتنشئتهم، وتفقد أحوالهم.
ويأتي في مقدمة هؤلاء الخلفاء، الخليفة العباسي (هارون الرشيد)، الذي قال عنه عبد الله بن المبارك: "ما رأيتُ عالمًا، ولا قارئًا للقرآن، ولا سابقًا للخيرات، ولا حافظًا للحرمات في أيام بعد أيام رسول الله وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة، أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثماني سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعِلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة" (1) ؛ ولم يكن ذلك إلا بكثرة إنفاقه، واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه منذ الصغر!).
الخليفة الموحدي الثالث المنصور، يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يُنشئ (بيت الطلبة) للنابغين ويشرف عليه بنفسه، حتى إن بعض حاشيته حسدوا هؤلاء الطلبة على موضعهم منه، وتقريبه إياهم، وخلوته بهم دونهم. ولما بلغ ذلك (المنصور الموحدي) فزع وخاطبهم قائلاً: "يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمرٌ فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمرٍ فأنا ملجأهم، وإليَّ فزعهم، وإليَّ يُنسَبو".(2) فكان أن قامت دولة الموحدين، وسادت وعمَّت الأرجاء.
كان الشيخ (نجم الدين الخبوشاني)، ممن عيَّنه السلطان (صلاح الدين) ليدرِّس في مدرسته الصلاحية، وقد جعل له كل شهر أربعين دينارًا عن التدريس، وعشرة دنانير للإشراف على أوقاف المدرسة، وستين رطلاً مصريًّا من الخبز كل يوم، وراويتين من ماء النيل كل يوم.(3)
وكان من رواتب شيوخ الأزهر الشهرية، راتب يأخذه الشيخ لنفقات بغلته، إذْ كان من أوقاف الأزهر وقف خاص لبغلة الشيخ ونفقاتها. (4)
وقد اشتهر أمر الجوائز العظيمة والهبات الجزيلة التي كان يمنحها الخلفاء والحكام للعلماء بهدف التشجيع على تحصيل العلوم، وكانت هذه الجوائز في صورة أقرب إلى الخيال، وكان من ذلك إعطاء وزن الكتاب المُترجَم من لغة غير العربية إلى اللغة العربية ذهبًا للعالِم الذي يقوم بترجمته.(5)
ولم يكن اهتمام الدولة يقتصر على رعاية العلماء من أبنائها، بل كان الحكام يستدعون العلماء من شتى الأمصار ليستفيدوا من علومهم، ويسعدوا برعايتهم، فها هو الأمير (المُعزّ بن باديس)، أحد أمراء دولة (الصنهاجيين) في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره عنده، بل وجعله من خاصَّته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرُّتب.(6)
وها هو السلطان (محمد الفاتح)، لا يسمع عن عالم في مكانه أصابه عوز وإملاق إلا بادر إلى مساعدته، وبذَل له ما يستعين به على أمور دنياه.(7)
وإن هذه الصورة لتتضح في وصيته لابنه وهو على فراش الموت؛ فقد جاء فيها: "وبما أن العلماء هم بمنزلة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظِّم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحدٍ منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك، وأكرمه بالمال". (8)
وهو الأمر الذي ساعد على ازدهار الدولة حضاريًّا وعسكريًّا حتى باتت الدولة الأولى في العالم.
(1) تاريخ الخلفاء، [2/157]
(2) المراكشي: المعجب ص81
(3) السيوطي: حسن المحاضرة [2/57]
(4) السباعي: من روائع حضارتنا ص102
(5) ابن صاعد: طبقات الأمم ص48، 49
(6) ابن عذاري: البيان المغرب ص129
(7) الصلابي: الدولة العثمانية ص140
(8) الصلابي: الدولة العثمانية ص1487
المصدر : قصة الإسلام
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة