باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
جرائم الإحراق بين خطايا التاريخ والواقع
لا يمكن للإنسان أن يتمالك نفسه ويضبط مشاعره، وهو يعيش في طيات زمنين، فيهما من التباين والقواسم الكثير، فيتجرع مرارة هزائم وانكسارات زمنٍ ذهب وغاب، وتعتصر قلبه آلام أمةٍ حاضرها جسدٌ معنّى، روح مضرجةٌ بالكبرياء، وشعوبٌ خبزها أرغفة دم، يترصد لهم الموت في كل صوبٍ واتجاه، أكانوا في مدن الصقيع والجوع، أم في قوارب الشؤم، تتقاذفهم أمواج البحار المظلمة... مرارات الزمن الماضي تصبح جراحاً غائرةً في الذاكرة لا تلتئم بسهولة، وتبقى قانية مع تتابع السنين العجاف، وهنا تتجلى الحقيقة بأن هزيمة الأمنيات أمام وقائع التاريخ واقع لا مفرّ منه، وكيف لا.. وجزءٌ من الحاضر يضج من ماضٍ قريب منهك، وبعيد غائب أو مغيّب...
أقلب صفحات الذاكرة المترنحة بين التاريخ والواقع، والتي اختزنت آلاف القصص والمشاهد الموجعة، لها أزيزٌ صاخب وهي تمرُّ في أفق الخيال، صورٌ لا يمكن نسيانها أو تجاوزها بسهولة ويسر، فهي صور قاتمة السواد، لها وقع شديد على النفس، فتتقلب ألماً جراءها وتنوح بنشيجٍ صامت مكلوم، صورٌ لا مفرّ منها، تحاصرني كلما شاهدت جذوة من لهب. مشاهد لأحداث لا تتكرر بحذافيرها ومرتكبيها، بل بالفعل الخارج عن الإنسانية والفطرة، والجرم الفظيع الذي لم يفرّق بين الإنسان ونتاجه الفكري، فأضاع في الحالين كنوزاً لا تتكرر أبداً، والمجرم لا ريب واحد، لو اختلف اسمه ولقبه ونطاق حكمه وجبروته، وعبرت به وحشيته المتغولة الأزمنة المتتابعة، حتى وصلت لحاضرنا المترع بالبؤس.
في الصورة الأولى أشاهد مدينتي الوادعة طرابلس الفيحاء، المزهوة بأزهار الليمون وبساتينه الممتدة، تلك المدينة الغراء التي أنشأ فيها بنو عمار مكتبةً من أعظم مكاتب الدنيا، حتى أضحت طرابلس تنافس بغداد وقرطبة بجلال الكتاب وعظمة العلم، لم يترك محتلوها من الصليبيين الفرنجة فرصة ليصل هذا الإرث المهول مستحقيه من الورثة، بل أحرقوا مكتبتها العظيمة بعد أن استعصت عليهم المدينة سنين طويلة، ودمروا مئات الآلاف من الكتب النادرة في كل علم وفن، وكانت الحجة امتلاء إحدى قاعات المكتبة بالمصاحف، فظنوا أنها مكتبة لا تضم إلا القرآن الكريم، ولم يعرفوا أن العلوم جميعاً تستقي من معين كتاب الله تعالى، فصدر الأمر وارتكبت تلك الجريمة الحضارية... أمعن الجهلة بامتهان الكتاب، وصنعوا من جلوده أحذية لهم... ولكن ما قيمة هذه الثروة العلمية أمام الآلاف الذين غيبتهم الأحداث في طيات تلك الكلمات القليلة... "دخل الفرنجة مدينة كذا وأبادوا البلاد والعباد"...
لا أستطيع تخيل مشهد إحراق الكتب في طرابلس، إلا وأستحضر ذلك المشهد الرهيب، الذي شهدته إحدى ساحات البيازين في غرناطة، حيث يجمع المتغلبون بالخديعة والظلم، كومة ضخمة من صفوة النتاج الفكري للعلماء والمفكرين والفلاسفة في الأندلس... ويضرمون النيران فيها بعد خطبة مليئة بالترهات والتحذلق، يشعلون النار أمام حشودٍ من المقهورين على خسارة البلاد... والكتب... فهي لهم الوطن الصغير بعد خسارة وطنهم الأكبر.. مشهد تكرر في غرناطة كثيراً بعدها، ثم تجدد بصورةٍ أكثر فظاعة عندما أُحرق المسلمون افتداء لدينهم، ولأنهم أبوا أن يتخلوا عن ثقافتهم العربية ولو في الأقبية، وفي سراديب البيوت، وأقام المحتلون باسم الدين والكنيسة محاكم "التفتيش"، التي ارتكبت واحدة من أعظم محارق التاريخ... وأفظع الإبادات الجماعية... وما زالت تلك الأحياء تحنّ للكتب وأصحابها...
الصورة الثالثة شهدتها قرى ليبيا وهي تنافح الاحتلال الإيطالي، رفضوا الاحتلال وقاوموه بكل ما توفر لديهم من عدة وعتاد، ونفروا خفافاً وثقالاً ليروا بلادهم تنعم بالحرية... حرقت القوات الإيطالية عشرات القرى الآمنة، فدمرت المنازل، وأُبيدت المحاصيل، والتهمة مساعدة الثوار، ولم يكتفِ الطغاة بذلك، فأرسلوا الآلاف لمعتقلات الموت وللجزر المهجورة... هل خلّد التاريخ من كان قائد الاحتلال الإيطالي حينها، وأين ذكر الفاشية بعد موسوليني، وهل بقي الاحتلال كما خططوا وأرادوا... وفي المقابل كم من الأجيال تمجد جهاد عمر المختار والشريف أحمد السنوسي رحمهم الله، وغيرهم من أبطال ليبيا العظام...لا يمكن للمحتلّ أن يظلّ أبد الدهر، فالشعوب الحرة إما تنتصر أو تموت واقفة شامخة
ومن الصور التي تدأب التطفل على مخيلتي، تلك الجريمة الفظيعة التي جرت في أواخر ستينيات القرن العشرين، والقدس مدينة العراقة والتاريخ قد سربلها المحتلون من يهود، ولم يكن العرب والمسلمون قد استيقظوا من سُكر هزيمتهم بعد، إلا وهم على صور النيران التي أضرمها متطرف جاء من أقصى الأرض، ليشعل أتون حقده وجبروته في الأقصى، وتكون تلك الصور مع مرارة الاحتلال وتغوّل المحتل، أقسى مشهد يمر على المقدسيين وعلى أي صاحب أنفة وعزة... يُحرق الأقصى وتحرق معه ذكريات عمرها من عمر تحرير المدينة، وتأكل النيران منبر نور الدين الشهيد، كأن ألم الاحتلال لا يكفي، فزاده ألم فقد نموذج "الأمل" والبصيرة، الذي حمله صلاح الدين من حلب ليوضع في القدس، ومسجدها الأجلّ.
أهدت حلب للأقصى منبراً بديعاً متقناً، لم يعرف العالم مثيلاً له حتى اليوم، وهي اليوم تعاني ألم الإحراق، هي وأخواتها في سوريا يحرقها حقد غائر، وتجبّر لم يبقِ فيهن حجراً على حجر، ولا بشراً في جنب بشر. حلب تلك المدينة التي استطاعت مواجهة الصليبيين، وانطلق منها آل زنكي، وبني فيها منبر الأقصى، تحرق لشبهة إرادة لمعت في أعين بريئة، لم تكن الوحيدة في الحلم، ولم تكن الوحيدة في الجرم، ولكنها ارتبطت مع غيرها من مدن سوريا، في تلك الحرب الحاقدة التي أحرق ويحرق الآلاف... زمرٌ حولت البلاد لأجداث كبيرة، ولسجن أكبر... ليت الحروب تتوقف لحظة لتنظر ماذا فعلت في بلادٍ كانت تحلم يوماً أن تكون حرة...
لا نفرق بين جرم وآخر، ولكن المشهدية الأخيرة جريمة لا تقل عن سابقاتها شناعةً، ولا يمكن لذي لبٍّ التغافل عنها، والمرور عليها مروراً هائماً غير مكترث ومقدر... هي إحراق البراءة والطفولة والأمل، إحراقٌ قامت به أصابع الحقد والضغينة، وقفت خلفه شرذمة عاثت فساداً في فلسطين الحبيبة، لمتطرفين كالذين سبقوهم، يكرهون كل جمال في هذا العالم، ولو كان فتى يتوجه للصلاة في فجر يومٍ توقف عنده الزمن بضع ساعات... أحرقوا الفتى اليافع محمد أبو خضير، ورقصوا حوله من ثمالة الحقد.. ولكن ذكراه ما زالت تحوم حول أبواب الأقصى، تتلمس أصوات من يأتي للفجر، تضمد روحه الثائرة جراح المقدسيين، وتظل وجعاً في الذاكرة ولعنةً على قتلته أبد الدهر...
صور كثيرة جداً، ترد علينا في وسائل الإعلام ووسائطه صباح مساء، من العراق وبورما، وأفغانستان، وفلسطين، وليبيا... صور الواقع الذي يغني عن صور التاريخ، وصرخات الذعر التي تتكرر، تقدم نموذجاً لما عجزوا عن تخيله في حروب الفرنجة، واجتياح المغول، وسقوط الأندلس... لم تكن النار إلا جذوة منفردة من عشرات المحن التي عصفت قديماً.. واليوم تتكرر بأثوابٍ أخرى، نتجرع الألم من جديد، ولا ترياق يمكن أن يشفي مرضى الذاكرة والحنين.
المصدر : هافينغتون بوست
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة