مستشارة أسرية
بين الخيال والواقع
تُمثِّل وسائل الإعلام قوَّةً مُهيمِنة تُؤثِّر على الناس وعلى خيالاتهم وأفكارهم، ورغم أن المرء حرٌّ فيما يفعل ويرى، فإنها تُشكِّل مؤثرًا فعَّالًا في تغيير تفكيره، وبالتالي تغير المجتمع، فأي فردٍ يستطيع ببساطة الإحجامَ عن مشاهدة مسلسل عاطفي أو برنامج ما، أو عدم قراءة هذه الصحيفة أو تلك، والفردُ ذاته هو الذي يقومُ بتحديد واختيار ما يقرأ أو يشاهد، لكن الرأي العامَّ يتوجَّه دون أن نشعر متأثرًا بما يُبثُّ ويُشاهد على الشاشات، ومِن هنا يأتي الخطر؛ حيث تعتبرُ أدوات الثقافة السمعية والبصرية الصانعَ الأول لذوق المشاهد.
والشاشة لها نصيبُ الأسد، فقد شوَّهتِ الحقائق، لدرجةٍ يصعب على الشخص تصديق سرعة التحول لدى الناس، فالحق أصبح باطلًا، والباطل يُروَّج له على أنه الحق!
بهدوءٍ ومنذ سنوات بدأ الغزو المكثَّف لإزالة حاجز عَلاقة الرجل بالمرأة، عن طريق لقاء محرَّم، يوصف الأمر بأنه عَلاقة شريفة: صداقة، أخوَّة، حب صادق! فتجد المشاهِد يتعاطف معهما، ويتمنَّى وهو يتابع أن يلتقيَ البطل بالبطلة، حتى لو كانت لا تحل له، حتى لو كانت زوجةَ رجلٍ آخر، وقد تَحمِل البطلةُ عن طريق عَلاقةٍ غير شرعية، وتساق الدراما لتهيئةِ المشاهِد ليتعاطفَ معها، ويقع في نفسِه دون أن يشعر أن هذا الحمل نتيجةَ الحب والمشاعر الفيَّاضة!
لعبٌ بالمشاعر، استدراج، خدعة، وتوغل خبيث في نفوس المراهِقات المدمنات على متابعة تلك الأنواع من المسلسلات والأفلام، لن تسمع بكلمة الزنا والزاني والزانية، ولا مرة واحدة! وإن سمعتها تكون على لسان رجل فظٍّ ومُلْتَحٍ، يعالج الأمر بقسوة وعنفٍ، ويلام على تنفيرِ الأبطال من الدِّين!
للأسف على التوازي يتم تشويه النماذج التي يشي ظاهرُها بانتمائِها لعباءة إسلامية!
تُرى ما الهدف؟ أظن أنه واضح جدًّا.
وقد يكون العمل مُصوِّرًا للحب بطريقة خيالية مبالَغٍ فيها، فتبني الفتاة قصورًا في الهواء، وتسترسل في أحلامِ اليقظة، بناءً على ما رأَتْه في المسلسل، وعندما تعيش حياتها الواقعية يرتَطِمُ خيالها بالواقعِ، فتصدم وتخالُ أنها محرومة من ذاك الحب، الذي كانت تراه في ثنايا الأماني وفُرَج الأحلام، وتظنُّ أن هناك غيرها من الفتيات يَنْعَمن بذاك الحب وهي لا.
الكثير من المسلسلات أظهَرَت الأمهات كمعاولِ هدمٍ، دائمًا الحماة منبوذة ومكروهة، أصبحتِ الفتياتُ متأهِّبات لأمهاتِ أزواجهن من قبلِ أن يتم الزواج!
بعضُ الأفلام تطرحُ الحب بين طرفين من بيئتين مختلفتين، بنت الأكابر وشاب بسيط، أو شاب من عائلة غنية يحب الخادمة، تُحلُّ المشكلة في لقطةٍ بنهاية الفيلم، وتُختزل كلُّ الفوارق في مشهد النهاية، رغم أن هذا لا يمتُّ للواقع بصلة، فليس انتقاصًا من قدر الفتيات الفقيرات، واللاتي لجأن للخدمة في البيوت، ولكن مَن يراهنَّ على الواقع مِن هؤلاء الشباب لن يركض خلفهن؛ لأن كليهما يختلف تمامًا عن الآخر؛ في طريقة الكلام، والملبس، والتعبيرات، وكل شيء، بل الفتاة نفسها ستنصرف عنه؛ لأنه كما يقولون: (مش من تُوبها)، لكن السينما خدَّاعة!
المسلسلات الغرامية لها تأثير قويٌّ على المرأة؛ لأنها بفطرتها عاطفيةٌ، وإن كانت الأفلام الإباحية خطرًا على الرجال، فالمسلسلات الغرامية أكثر خطرًا على النساء؛ إذ إنها تُشوِّه الحقيقة، فالمرأة وتدُ البيت، وإن أصابها السهم في مقتلٍ، انهارت خيمةُ الحياة الزوجية!
ستجد من الدراما تبريرَ خيانة الزوجة لزوجها، بسبب أنه يعاملها بفظاظة، أو ذاك المتشدد دينيًّا والمُقصِّر في الكلام الغَزَلي، أو لأن أهلها أجبروها على الزواج منه وهي لا تحبه، بعض النساء والفتيات للأسف تتعاطف مع الزوجة في هذه الحالة وتبرر لها خيانتَها، بدلًا من البحث عن حل ومناقشة المشكلة لإفادة المشاهد، فيلعبون على العواطف، لن تجد الحل، لكنك ستتعاطف مع أصحاب الرذيلة، وربما لخفة الدم يتعلق القلب بهم!
قد يتأثَّر أحيانًا الرجلُ بالإعلام، ويُعجب بالمرأة الغربية؛ نتيجةَ لبسها وجُرْأتها، وفي نفس الوقت لا يقبل هذا من زوجتِه، فتراه يتخبَّط بين ما أعجبه وما يعيشه، فيكره زوجته!
تظهر المرأة المحتَشِمة أنها معقَّدة وكئيبة، لن تجد بطلةً مؤثِّرة لأي عمل درامي ترتدي الحجاب، بل أصبح الحجاب يظهر على رؤوس الخادمات فقط!
بطريقة ما تتطبَّع المراهقات بهذا الفكر، فتجدهن ينشَأْن على اقتناع أن التمرُّد والتحرر هو السعادة، وأن المرأة الجريئة هي الأقوى، حتى ألفاظ الأغاني أصبحتْ عجيبة، غابتِ اللُّغة العربية، وبدأت تتردد على ألسنة البنات والشباب مصطلحاتٌ وتعبيرات تدل على انحطاط الذوق العام، أصبحت الفتاة الرقيقة والراقية في سلوكها وألفاظها عملةً نادرة!
أما عن الأسلحة البيضاء، فقد أصبحت لعبة، والتدخين والمخدِّرات صارا شيئًا عاديًّا، تكرار المشاهد ورؤية الأبطال وهم يسكرون ويشربون، جعل الأمر هينًا على البعض، وكأن تكراره يُخفِّف من حرمته!
التركيز على المرأة، وجسد المرأة، ورقص المرأة، الرقص.. الرقص، حتى في رمضان! وإظهار الحجاب قَيدًا وأغلالًا، والزواج ظلمًا وقهرًا، والمرأة التي تحب زوجها ضعيفة، والتي تطيعه معدومة الشخصية، كلها لماذا؟!
كثرة مشاهدة الأعمال التلفزيونية تؤدي إلى ترسب المواقف التي شُوهدت في العقل الباطن، فتكون هي المرجعَ الفكري لاتخاذ القرارات، وأحيانًا تبذر بذرة الشك في نفس الزوج أو الزوجة، في حال تشابه المواقف، الخلافات الزوجية يتم مناقشتها عادةً بين الزوجين من خلال الموروث المخزون لديهما!
فإذا كان هذا الموروث مستقى مما يُرى ويُسمع ويُقرأ في وسائل الإعلام، فإن القرار الذي سيُتخذ سيكون متأثرًا بطبيعة الحال بوسائل الإعلام، لكن الزوجين لا يعترفان بأن قرارهما قد اتخذه التلفزيون!
تؤثر وسائل الإعلام أيضًا على مفهومِ الجمال ومقاييسه لدى المشاهِدين المبتَلَين بإدمان مشاهدة الأفلام والمسلسلات، تغيَّرت نظرة الأزواج تجاه جمال زوجاتهم!
قرأتُ في أحد المقالات استطلاعًا عن هذا الأمر جذب انتباهي؛ حيث تقول سيدةٌ فاضلة متزوجة منذ عشر سنوات: "لكثرةِ تشبُّعه بما يرى - تقصد زوجها - فإنه لا ينظر إليَّ عندما نتحدث، نعم إنه يغضُّ بصره تمامًا عني، قد ينظر إلى الجدار، أو التليفزيون، أو الأولاد، أما أنا، فلا، رغم أني لا أهمل زينتي وهندامي، ولكنني مهما فعلتُ فلن أصل إلى مستوى تأنُّق وجمال فتيات الفيديو كليب، وليس أمامي حيلةٌ بعد أن استنفدت كلَّ ما في وسعي.
• "آدي الستات ولا بلاش"، جملةٌ يُردِّدها زوجُ فاضلةٍ أخرى عندما يتراءى أمامه ظل فتاة إعلانات أو فيديو كليب! للأسف ترك نفسَه فريسة للتلفاز، فبهرته الصور، وعاش يتتبعها!
تقول خبيرة التجميل بأحدِ الصالونات - بأحد أحياء القاهرة الراقية - : نعم، تأتي إلى الصالون كثيرٌ من السيدات، وتكون مطالبهن غريبةً لإرضاء أذواق أزواجهن، فهناك من تُصِرُّ على صبغ شعرها باللون الأشقر، كلما نبت سنتميتر واحد من شعرها الأسود؛ لأن زوجها يحب ذلك، وأغلبهن يستشرنني في كيفية عمل الرجيم - نظام غذائي - القاسي للنحافة، حتى قصَّات الشَّعر والمكياج، فهذه تطلب قصة شعر فلانة (مغنية مصرية)، أو ماكياج فلانة (مغنية لبنانية)، والمبرر: "أصل جوزي بيحب كده"!
زمان، لم يكنِ الأمرُ هكذا، فالزبونة كانتْ تطلب مني أن أصنعَ لها ما يليق عليها، وكانت للأزواج آراء مستقلة غير متأثرة بشكل المغنية فلانة أو...، إلخ".
الجمال الحقيقي هو جمال الروح، فهذه حقيقة وليس من كلام الفلاسفة، ونحن لا نناقش مسلَّمة "أهمية تجمُّل الزوجة لزوجها"، فهذا أمر مفروغ منه، إلا أن الإسراف في التشبُّه بالأخريات أمرٌ مرهق نفسيًّا يجعل الزوجة تفقد معه شخصيتها التي تميزها عن كل امرأة أخرى، بل ويُدخِلها ذلك في دوامة صراع مع ذاتها، وعدم رضا عنها، وذلك كله بالطبع مرفوض.
ببساطة شديدة تُسبِّب وسائل الإعلام الإحباط للمرأة وزوجها أيضًا؛ لأنه لن يظفر بما يراه على شاشات الفضائيات، راقِبوا ما تشاهدونه وما يشاهده أبناؤكم؛ مِن أجل حياة لا يشوشها إرسال التلفاز، وخفِّفوا من الخيال؛ حتى ترضوا بالواقع وتستمتعوا به.
منارة حب:
الحب هو أن تكونَ هي الخيال عندما تشتاقُ إليها، وأن يكون هو الحلم الجميل عندما يَغيب عنكِ، فمهما بلغتْ حلاوةُ الخيال فهي للحظاتٍ ثم تزول! أما الواقع، فيبقى حلالًا في الدنيا، وخالدًا في الآخرة.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/social/0/122019/#ixzz4zH9Zn0Rg
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن