عندما حذفوا القدس من دروسنا
قبل ما يزيد على القرن وفي غور دراساته التحليلية لعلل الأمّة العربيّة المتقهقرة يتبحّرُ المُصلِح الثوري الفذّ عبد الرحمن الكواكبي في وصف مخاوف المستبدّ فيقول:
"ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما حقوقه، وكم هو مغبون وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله "أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" سورة الأنبياء."
الاستبداد والعلم-كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.
أعزى الكواكبي سبب تدهور الأمّة إلى شرش الاستبداد الفاسد يستشري في الجسد العربي ويتجلّى بشتّى المظاهر، شخّص العلّة وتباعاً وصف الدواء انقلاباً مجتمعياً طبيعياً بطيئاً يبدأ عند الجذور مع الرضّع في الحجور فكان إيمانه بأن لن يتفق خلاصٌ للأمّة بغير نهضةٍ حقيقية في المنظومة التربويّة التعليمية كضرورةٍ تتناهى عند أطرافها ثمار الحرية.
ثم نأتي اليوم فنشهد التغييب الغريب للمناهج الوطنية والاستبدال الشبه كامل لها بمناهج الاستعباد الناعم المستوردة والتي لا تُدقّق ولا يراجع محتواها قبل أن يهمّ أبناؤنا باستهلاكها تماماً كما يهمّون باستهلاك سائر المنتجات المنخّلة البيضاء. وإذا حدث ودُرّست المناهج العربية فهي معتدلة أليفة تتنافس فيما بينها في حذف أي أثرٍ مُريبٍ أو ذكرٍ مشبوهٍ للقدس وللقضيّة الفلسطينية في طيّات مناهجها. بينما يحدث هذا وأكثر في الساحة التعليمية في العالم العربيّ يدأبُ المؤلفون والفنّانون والقاصّون وأخصائيو التربيّة في التجربة الاستيطانية الإسرائيلية، فيبتدعون في مرادهم المزعوم حكاياتٍ لأطفالهم مبلغاً في الإتقان والحرفيّة والقيمة الجمالية.
عندما يعلم العربيّ بهذه المعلومة سيثني كما يفعل دوماً على دهاء المحتّل، فيعزي هذا الإخلاص في إتقان الرسالة إلى صفة استثنائية فيهم وكأن هذا الدهاء وهذه الحذاقة صفّةٌ تورث وتسري حصراً فيهم متوهّماً أن مكرهم لا يُحاط بكنهه ولا يُطال جانبه. لا يا أخ العرب، هو ليس أذكى منك ولا هو بأدهى منك، هو فقط يبحث بنهمٍ هستيري ويتشبث بنواجذه بأي سببٍ ماكر من أسباب بقائه ومعاندة فنائه الآجل لا محالة.
الإسرائيلي درسٌ ماثلٌ أمامنا، وإن كان درساً خبيثاًّ، في مقاومة الاندثار المحسوم والمؤجل. هو يخلص في صنعته وإن كانت هذه الصنعة تلفيقاً وبهتاناً. مفتاح السرّ لديهم هو التكرار المُصِّر المنتظم. بمناسبةٍ ودون مناسبة، تجاه جمهورٍ مناسبٍ أو غير مناسب، لا يهمّ، هم ببساطة لا يفوّتون فرصةً لترديد الأكذوبة في الآفاق. دأبهم في ذلك لا ينثني. مبدأ المحتلّ قائمٌ على تكرار الكذبة على المسامع تكراراً ثابتاً دؤوباً لا يتوانى إلى أن يتحقق النوال فتغدو الكذبة حقّاً، ويمسي السراب ماءً يروي الألباب، فتألفها الأذن ويصدّقُها القلب.
المتابع للمنشورات التربويّة النخبوية العالمية يجد عدداً لا حصر له من القصص المقرّرة التي تتناول مفهوم "الأرض المقدّسة" والموجهّة للأطفال فتتراوح العناوين بين "سنبني الهيكل" إلى "قصص الأنبياء من الأرض الموعودة"، وصولاً إلى دراسات موثّقة تقيس التفوّق اللافت لأداء وكفاءة المجنّدين في جيش الاغتصاب الإسرائيلي الذين تفرّدوا بتلّقي تربيّةٍ وتعليمٍ نوعيٍ في طفولتهم عن أقرانهم الذين ارتادوا المدارس النظامية الاعتيادية التقليدية في الكيان الغاشم.
الاحتلال يجنِّد أرقى وأنجع الأساليب التربويّة لخدمة أهدافه الاستيطانية. الاحتلال يوظّف التعليم النوعي لإنتاج مجندّين ذات جسارة ولياقة معنويّة فائقة في تحمّل الويلات والصراعات النفسية والمعنويّة الطبيعية المترتبة على إلحاق الأذى والظلم والقتل والتنكيل بشعبٍ كامل. يستثمر العدوّ الصهيوني جهداً جبّاراً في خلق وإخراج وترسيخ تجربة تربويّة في الوجدان الجمعي للناشئة في صميمها رسالة واحدة مركزية؛ قدسيّة هذه الأرض وأحقيّتهم بها.
لن تكون فلسطين حرّة إذا كانت العقول مستعبدةً مكبّلة. في سوق المعرفة اليوم، لا يهمّ أن تكون صاحب حقٍّ موثوق المهمّ أن تكون صاحب قصّةٍ منظومةٍ متقنة الحبك سائغةً للأسماع
هؤلاء يعرفون كيف يصلون إلى قلوب الناشئة. وبتجاهلُ مصمِّم لتوصيّات المبادئ التربويّة التي تحذِّر من دمغ الأطفال بختمٍ أيديولوجيٍّ مبكِّر فإنّ الولد عندهم يتجرّعُ الأكذوبة الصهيونيّة خالصةً مع لبن أمّه. فقط قارنوا ذلك مع التمييع الناعم الحاصل في تربيّتنا لأبنائنا نحن العرب. المربيّ الصهيوني لديهم مدركٌ تمام الإدراك لحقيقة أنّ واقع الحقيقة ويقينها ليس له قيمة إزاء الكيفية التي تتمثّل بها هذه الحقيقة في الأذهان.
الوعي المتحصِّل في النفس الشعبية الجمعية. على غرار "لا يهمّ ما تعرف، المهمّ هو مهارتك في إظهار وتحقيق ما عرفت". المهمّ اليوم هو اعتراف الآخرين بك وتصديقهم لقصّتك، قيمتك اليوم تأتي من تصديق الآخرين لك وتبنّيهم لقضيتك، كل رسالة تنجح أو تجنح بمقدار ما تكون جديرةً بالتصديق، بمقدار ما تكسب من أتباع. لأن فعل التصديق يوجب الثقة ويمنح المصداقية للقصة. القصّة المسرودة أهمُّ من الحقيقة المسروقة. ولنا في كنية أبو بكر ب "الصدّيق" كل العبرة في القيمة الجوهرية للاعتراف والإيمان صفر الشكّ بالرسالة الخالدة الصادقة.
لذا فإن دور كتّاب القصص وكتّاب قصص الأطفال وواضعي المناهج على وجه الخصوص قد يكون أكثر فاعليةً في خدمة نداء تحرير فلسطين من أعتى وأفطن الساسة والقادة. لن تكون فلسطين حرّة إذا كانت العقول مستعبدةً مكبّلة. في سوق المعرفة اليوم، لا يهمّ أن تكون صاحب حقٍّ موثوق المهمّ أن تكون صاحب قصّةٍ منظومةٍ متقنة الحبك سائغةً للأسماع. وكما قالت آيمي كودي في كتابها عن فعالية" الحضور"، "إن كنت لا تبتاع ما تبيع، فلماذا سيبتاع الآخرون بضاعتك؟"، إن كنت لا تصدِّقُ قصّتك ولا تقتنع بها حقّ القناعة فثق أن لا أحد سيصدّقُها.
ونحن هنا لا نتسوّل أتباعاً للقضية بل جلّ ما يعنينا أن ننجح في تمرير منظومة قيّمية مقاومة لأبنائنا. أصدقاؤك هم الذين يصدّقون قصتّك. وأصدقاء المشروع الإسرائيلي هم الذين يصدّقونه ويتبنّون قصّته الموضوعة. في عهدٍ ليس بالبعيد كانت القصّة الفلسطينيّةُ موضوعاً تكرّس له الدروس في المناهج العربيّة، كانت القنوات تصدحُ بالأناشيد المهيّجة للمهج تجاه القدس التي، من بين كل البقاع تُشدُّ لها الرحال والآمال وكان ذلك الإنكار للظلم أضعف وأوهن الإيمان.
أذكر كيف كان أبي يحدِّثنا عن كتاب القضية الفلسطينية الذي كانوا يدرسونه كجزء جوهري من المنهاج الثانوي في أردن السبعينيات إلى جانب العبقريّات للعقّاد مثلاً وأذكر كيف كانت خالتي تحدثّنا عن الاعتصامات الجيّاشة للشباب المتحمّس المفعم في رحاب الجامعة الأردنيّة رفضاً للمحتّل السالب في التسعينيات، أذكر مسجّلها والصوت الباسل يشدو منه " القدس لنا، الأرض لنا".
لماذا أصبحت الأنظمة التعليمية العربيّة مستسلمة، اعتذارية تتوارى من الصريح المحظور، بينما يزداد الخطاب الاستيطاني شراسةً ووحشيةً وعنجهية. فلسطين ليست شأناً محليّاً، ليست ألماً موضعياً، فلسطين ليست لأطفال فلسطين، فلسطين لكلّ من يغار على ترابها الطهور. ولنسأل أنفسنا هل كان صلاح الدين فلسطينياً؟ هل كان عربيّاً على أقلّ تقدير؟ فهلاّ امتنعتم عن "موضعة" القضية، عن قصقصتها، عن حجرها في الحجرة الخاصّة. القضية تعني كلّ شريف، فلا تسأل لمن يُقرَع الجرس، فهو يقرع لك".
أيّها الأم العربيّة، أيّها الأب العربيّ، اعلما أنّ القدس تبتعد عنّا ألف سنةٍ ضوئية في كلّ مرةٍ تفضّلان التكلّم بغير لغة الأقصى مع أطفالكما. اعلما أن الأقصى غالٍ ولا يرضى بأشباه العشّاق وأنصاف الصدّيقين. القدس لن تعود لنا إن لم نعد. في كلّ مرّة نعلِّم أولادنا أن مطمح الغايات تحصيل وظيفة رتيبة أو نيل منصبٍ رفيع نكون قد منعنا عنهم إبصار المرام المنيع. إن لم نملأ أذهان أبنائنا بالنفيس الغالي المستحقّ للتبجيل والنضال، سارعت إليهم السفاسف ومغريات الهزالة الاستهلاكية تحشو بواطنهم بالرديء المُمتِّع، فحذار.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة