جيش الاحتلال 'الرحيم'
في 12 أغسطس/آب 1949، قامت فصيلة من الجنود الإسرائيليين، كانت مرابطة بالقرب من بيت حانون، بأسر فتاة فلسطينية عمرها 12 سنة، واحتجزتها في موقع تمركز الفصيلة بالقرب من كيبوتس نيريم ـ شمال قطاع غزة ـ وفي الأيام القليلة التي أعقبت احتجازها، حلق الجنود شعرها وتناوبوا على اغتصابها، ثم قتلوها. وصلت الواقعـة إلى مكتـب القائد الإسرائيلي ديفـيد بـن غـوريون الذي قــام بتسجـيل الواقعـة في يومياته، لكن محــرري اليومـيات قامـوا بحذفـها من النسخـة المنشورة، وفي 29 أكتوبر/تشرين الأول 2003 كشفت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تفاصيل الواقعة، استناداً إلى شهادات أحد المغتصِبين، مؤكدة اشتراك 22 جنديا في عملية الاغتصاب البربرية والقتل، حين تم تقديمهم للمحاكمة، كان أقسى حكم أصدرته المحكمة، السجن عامين فقط لمن قام بقتل الفتاة.
في سرده لوقائع الاغتصاب التي تعرضت لها النساء الفلسطينيات، خلال احتلال القرى الفلسطينية بعد نكبة 1948، يستند المؤرخ الإسرائيلي البارز إيلان بابيه إلى توثيق موظفي الأمم المتحدة والصليب الأحمر لعدد من الحالات، مثل ما حدث بعد فترة وجيزة من احتلال يافا، حين رفع مندوب الصليب الأحمر دو ميرون تقريراً روى فيه كيف اغتصب جنود فتاة وقتلوا أخاها، ملاحظاً أنه بشكل عام عندما يؤخذ الرجال الفلسطينيون أسرى إلى المعتقلات، فإن نساءهم يبقين تحت رحمة الإسرائيليين. في رسالة إلى بن غوريون يكتب يتسحاق تشيزيك عن «مجموعة من الجنود اقتحمت أحد المنازل، فقتلت الأب وجرحت الأم واغتصبت الابنة»، وفي رسالة أخرى يكتب تشيزيك «أما عن حوادث الاغتصاب سيدي فلا بد من أنك سمعت بها».
تغطي الأرشيفات الإسرائيلية الحالات التي أحيل فيها المغتصِبون للمحاكمة فقط، والتي اطلع عليها بن غوريون وسجلها في يومياته، التي وجدت فيها كل بضعة أيام فقرة تحمل عنوانا فرعيا يقول: «حالات اغتصاب»، في واحدة منها ذِكر لحالة في عكا «حيث أراد جنود اغتصاب فتاة، فقتلوا والدها وجرحوا أمها، وغطّى الضباط على فعلتهم، واغتصب جندي واحد على الأقل الفتاة». كانت يافا أيضاً ساحة للقسوة وجرائم الحرب التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون، حيث كانت كتيبة معينة ـ الكتيبة رقم 3 التي ارتكبت مجازر في الخصاص وسعسع وصفد ومحيطها ـ «متوحشة في سلوكها، بشكل جعل جنودها مشبوهين بارتكاب معظم حالات الاغتصاب في المدينة»، لدرجة أن القيادة العليا قررت أن من الأفضل سحبها من المدينة، أما في الصفصاف فقد اغتُصبت أربع نساء وفتاة أمام أهالي القرية، وطُعنت امرأة حامل بحربة بندقية.
لأسباب تتعلق بخوف الضحايا من العار، بقيت جرائم الاغتصاب أقل الجرائم الإسرائيلية توثيقاً ورصداً، على عكس جرائم التطهير العرقي، التي تضيق المساحة عن ذكر أمثلتها التي يُفصّلها إيلان بابيه في كتابه، الذي افتتحه بمقتطف من خطاب وجهه ديفيد بن غوريون في يونيو/حزيران 1938 إلى اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، قال فيه: «أنا أؤيد الترحيل القسري ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي»، وهو ما لن يسعد به المتصهينون الجدد الذين يحاول بعضهم تصوير الجرائم الإسرائيلية كرد فعل مرتبط بحرب 48، أما مروجو أكذوبة أن الفلسطينيين باعوا أرضهم وتركوها اختياراً لإسرائيل، فلن يرضيهم ما يجدونه في الكتاب من عرض مفصّل لوثائق الخطة (دالت) التي وُضعت في 10 مارس/آذار 1948، ونُفذت بالحرف أساليبها البشعة من ذبح المواطنين ومحاصرة وقصف القرى، إلى حرق المنازل والأملاك والبضائع، إلى طرد السكان وهدم البيوت وزرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم، وتلويث القنوات الموصلة للمياه بجراثيم التيفود، وبعد ستة أشهر فقط من تنفيذ الخطة، كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما يقارب 800 ألف نسمة، قد اقتُلعوا من أماكن عيشهم، بعد تدمير 531 قرية وإخلاء 11 حيا مدينيا من سكانه، في واحدة من أبشع عمليات التطهير العرقي، التي ستبقى جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم و»الطرمخة».
وفي حين يروي الكتاب وقائع لمجازر إسرائيلية نالت بعضاً من الذيوع مثل مجازر دير ياسين والطنطورة والصفصاف وسعسع، فإنه يلفت انتباهنا إلى مجازر مجهولة، رغم أنها تفوق في وحشيتها مجزرة دير ياسين، مثل مجزرة قرية الدوايمة التي يعتبرها أسوأ ما حدث في تاريخ الجرائم التي ارتكبت خلال النكبة، والمؤسف أن الفيلق العربي الذي كانت المنطقة تحت سيطرته، خشي من إذاعة أخبار المجزرة لكي لا يوجه إليه اللوم على تقاعسه، وادعى بعض مسؤوليه في ما بعد أنهم خافوا من انتشار أخبار المجزرة، لكي لا تحدث التأثير الذي أحدثته مجزرة دير ياسين في معنويات الفلسطينيين، فينزحون في موجة لجوء جديدة، ولذلك تم التعتيم لسنوات على جرائم اعترف بها بعض الجنود الذين شاركوا فيها: تحطيم جماجم أطفال رضّع، اغتصاب نساء وحرق بعضهن داخل بيوتهن، فتح النار من 20 عربة مصفحة على سكان القرية البالغ عددهم 6 آلاف نسمة، وقتل الذين هربوا منهم إلى جامع القرية أو إلى كهف «مُقدس» قريب من القرية يُدعى عراق الزاغ، كان مختار القرية قد غادرها وحين عاد إليها في اليوم التالي للمجزرة، روّعه مرأى أكوام الجثث في الجامع والشوارع لرجال ونساء وأطفال، وحين ذهب إلى الكهف وجده مسدودا بعشرات الجثث، وهو ما سجلته روايات لم تنشر بعد أعوام لنظن بها المبالغة والتهويل، بل نُشرت في تقارير تم رفعها إلى القيادة الإسرائيلية خلال أيام قليلة من وقوع المجزرة.
في ظل توفر كل هذه الحقائق وغيرها على الإنترنت، لم تكن ستخرب الدنيا، لو سعى البعض للتحقق مما ينشرونه من هراء انفعالي، يقارن بين «إنسانية» الاحتلال الإسرائيلي وجرائم الحكام العرب، خاصة أن أحداً لم يجبرهم على اختيار جهة وحيدة لإدانتها. بالطبع أفهم أن يغضب البعض من متاجرة «مجرمي أنظمة الممانعة» بفلسطين وأهلها، وأن يحزنهم تأييد بعض الفلسطينيين لأنظمة تقتل الأطفال في سوريا، لكنني لا أفهم أن يدفعهم ذلك الغضب للوقوع في فخ تبرئة احتلال استيطاني يمارس جرائم التطهير العرقي منذ عقود ولا يزال.
صحيح، ليس في أيدينا الكثير لنفعله من أجل فلسطين ـ ولا من أجل أوطاننا ـ في هذه الأيام النَكِدة، لكن إذا لم تكن لدينا مجرد الرغبة في قراءة التاريخ ونشره لمنع تزييف الذاكرة، وذلك أضعف الإيمان بالإنسانية والعدالة، فلماذا ننشط فقط في السعي لتبرئة قتلة محتلين، لكي ندين قتلة محليين، مع أن أجدادنا أورثونا حكمة بليغة في هذا الصدد تذكرنا في ظروف كهذه بأنه «لا خيرةً في الخ٭٭٭ خيار».
٭٭٭
ـ التطهير العرقي في فلسطين ـ إيلان بابيه ـ ترجمة أحمد خليفة ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن