غرباء في مجتمعنا المسلم... لماذا؟!
كتب بواسطة سجى مسعودي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1672 مشاهدة
بدأ الإسلام غريبًا بين الأديان، وأهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريبًا بين أهله وعشيرته، يُؤذى بسبب ذلك ويُعادى، ويصبر ويصر على الثبات على دينه الحق، حتى قوي الإسلامُ واشتدَّ عوده، فزالت غربته، وأضحى أهله هم الظاهرين على مَن ناوأهم (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) رواه مسلم.
وفي واقعنا المعاصر استحكمت غربة الدين في مظاهر كثيرة، اذ التبس لدى كثير من الناس معالم الدين والعقيدة ومكارم الأخلاق، وتداخلت لديهم الحدود بين الحلال والحرام، والمعروف والمنكر. فعادت الغربة عبر مظاهر مؤسفة من الانحلال الخلقي في السلوك بطريقة اصبحت ظاهرة ومحمية من قبل الدول، وترعاه مؤسسات وقنوات، وتجلى ذلك من خلال تساهل أكثر المسلمين في كبائر الإثم والوقوعٍ في الفواحش في ظل التفريط في العبادات وتضييع الفرائض، حتى صار الإسلام في نفوس كثير من المسلمين مجرد صفة متوارثة يرثها من والديه كما يرث لون بشرته وتفاصيل وجهه، ليس إلا عاطفةً باردة، أو فكرةً جميلة، أو قصةً عبر التاريخ، لا يبذل لها شيئاً يكلفه، ولا يدافع عنها بشيء يخسره.
أكثر المسلمين اليوم خرجوا في الطرقات بلا احتشام وبلا وقار وبلا تستر وبلا انضباط بدين وخلق، أكثرهم تخلوا عن عفتهم وسترهم، وأكثر الفتيات تجاهلن "وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ" فخرجن بزي لا تستطيع التفريق فيه بين المسلمة والمشركة، وبدت المرأة المحتشمة الملتزمة بحجابها الشرعي غريبة بينهن، تجد أكثرهم لا يبالي إن كان كسبه حلالا أم حراما، والربا الذي هو حرب على الله ورسوله ومن أكبر الكبائر، صار مجرد فائدة أو عوائد بنكية، وأصبح مالاً مشروعا متداولا، له مؤسساته ومبانيه المحمية بقوة الأنظمة، وبات أكثرُ الناس اليوم لا يبالون إذا كانت أعمالهم أساسها طاعة أو معصية، ويستهجنون على الفرد المتمسك بدينه أن يرفض عملاً في مؤسسة ربحها قائم على الربا أو التجارة بالمحرمات، وبلغت الغربة ذروتها إذ أصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنةً وفضولاً وتدخلاً في شؤون الغير، أما المجاهرة بالمعاصي والاستعلان بالمنكر حرية شخصية!
منع الحق وحبسه عن الناس ثم سوق الباطلُ في لباسِ الخيرِ، كان السبب لضياع الحق وانتشار الباطل وظهور الفساد
ولأن هذه هي الصفة الغالبة للمجتمع الإسلامي اليوم، فقد أصبح الملتزم بدينه يشعر بالوحشة لقلة السالكين معه ويخيم عليه إحساس بالغربة لقلة الملتزمين بشرع الله تعالى، إذ أنه ليس مع الأكثرية في تفلتهم وفساد عقيدتهم، في ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم، فتحدثه نفسه بتردد: يا رب كلُّ هؤلاء الناس على خِلاف الحق، أكثرُ هؤلاء الناس ليسوا على الطريق المستقيم، لعلي على ضلال أنا وحدي أيهما على حق: أنا أم هم؟! فتتجلى الطمأنينة في منبعها الاصلي -القران الكريم- بهذه الآية الكريمة.. (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الأنعام الآية: 116.
هذه الآية كفيلة بأن تربت على قلبك، وتظلل عليه بالسكينة، وتجلو عنه القلق والشك، لِئلا تشعرَ بالوحشة، لِئلا تشعرَ بأنكَ وحيدٌ في هذا المجتمع التائه، لِئلا تُحس أن الحقَّ مع هؤلاء الأكثرية، لِئلا تقع في هذه المشاعر التي لا ترتاح لها، جاءت هذه الآيات لتهمس في قلبك بأن لا تخف ولا تحزن فإن أكثر الناس ظالمي أنفسهم، وإن رأيت أكثرهم قد اجتمعوا على الباطل، فهذا لا يجعله حقا. ومن أهمِّ أسباب هذه الغربة ما ذكره الله تعالى وحذرنا منه حين قال معاتباً أهل الكتاب: "وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون، البقرة:42".
إن منع الحق وحبسه عن الناس ثم سوق الباطلُ في لباسِ الخيرِ، كان السبب لضياع الحق وانتشار الباطل وظهور الفساد، فالحق كتمه أهله من العلماء والمصلحين، إما تواكلاً وفتوراً، وإما جبناً وخوفا من صاحب السلطة والنفوذ، وإما خشيةً من ذهاب بعض دنياهم، أو طمعاً في جاه أو دنيا ينالونها بسكوتهم ويقدمون الثمن بالدين.
فلا غرابة أن يشعر هذا المسلم بالغُربة وهو يرى حوله الناس قد ارتكبوا المعاصي من غير مبالاة، إذ يقول ابن القيم في "مدارج السالكين" (3 /196 ـ 195) "فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليهم"، فلذلك من المشاعر التي ينبغي أن تشعر بها هو الشعور بالغربة، المسلم المتمسك بدينه، الذي عرف الله، وأدرك غاية وجوده، من الضروري أن يشعر بغربةٍ عن هذا المجتمع المتفلت، المجتمع الذي لا يقيم للفضيلة أية قيمة، المجتمع الذي لا يُنكر الرذيلة ولا يعظّم الفضيلة، المجتمع الذي يُعظم أرباب الأموال وكبار التجار أكثر ما يعظم أصحاب العلم وأهل التقوى والصلاح، الذي يُعظم الأقوياء ولو كانوا ظالمين، يعظّم الأغنياء ولو كانت ثروتهم بالحرام، المجتمع المؤمن باللذة من أي طريق، هذا المجتمع لابد من أن تشعر وأنت بين أنحائه بغربة، فالغربة السليمة أفضلُ من أُلفةٍ مريضة.
يقول الحسن البصري رضي الله عنه: "المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس على عزها، الناس حال وله حال، الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب". إذن لا غرابة أن يشعر هذا المسلم بالغُربة وهو يرى حوله الناس قد ارتكبوا المعاصي من غير مبالاة، ولذا كان لهذا الغريب من الأجر العظيم ما يستحقه بسبب غربته وقلة المعين على الثبات على الطريق المستقيم.
يقول الله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ، هود 116) إن هذه الآيات الكريمة تؤكد على أنَّ الناجينَ قِلة، والمستقيمين قِلة، والطائعينَ قِلة، فإذا وجدتَ نفسكَ مع القِلة الطائعة بعيداً عن الكثرة العاصية، مع القِلة المنيبة بعيداً عن الكثرة المعرضة، مع القِلة المتبّعة لسنة النبي عليه الصلاة والسلام بعيداً عن الكثرة التائهة والضالة فاطمئن وخذ البشرى من قول رسول الله -عليه السلام- بقوله: (بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى للغُرَبَاءِ) قيلَ: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: (الذين يزيدون إذا نقصَ الناس). يعني هؤلاء الغرباء في دينهم إذا قلَّ أهلُ الخير زادَ خيرهم، وإذا قلَّ أهل المعروف زادَ معروفهم، وإذا قلَّ أهلُ الورع زادَ ورعهم، وإذا قلَّ أهلُ الالتزام زادَ التزامهم.
فإن شعرت في غربة في هذا المجتمع المنحرف عن عقيدته، وانك من القلة القليلة المتمسكة بتعاليم دينها، فاطمئن على نفسك إذ يقول ابن القيم في وصفه لحال الغرباء في الدين كلٌ حسب معاناته وتصنيفه: "المؤمن غريبٌ عن الناس في دينه لفساد أديانهم، وغريبٌ في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريبٌ في اعتقاده لسوء عقائدهم، غريبٌ في صلاته لسوء صلاتهم، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى غير الله وغير رسوله، وبالجملة فهو غريبٌ في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً" (مدارج السالكين).
وغربة المسلم الملتزم بدينه قولا وعملا قد تكون في كثير من الأحيان أشد من غربة المسلمين بين أهل الملل الأخرى، اذ كلما زاد تمسك المسلم بالسنة زادت غربته، فهو مسافر في طريق طويل كلما قطع فيه مرحلة سقط بعض من حوله، والمسلم لا يعجب أن يحاربه الكفار، ولكن يشُق عليه أن يكون إخوانه في الدين أحياناً هم الذين يفعلون ذلك، بل وحتى أفراد أسرته، فهذا هو منتهى القسوة وذروة الفتنة، لذلك رغّب رسول الله في أجر الغريب في زمانه وجعله كالقابض على الجمر في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قيل: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم".
فإذا كنت مستقيماً على أمر الله والناس يتهمونك في عقلك إن خالفت أهواءهم وشعرت بالوحدة بينهم فاثبت و(اصْبِرْ نَفْسكَ مَع الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً، الكهف 28) وإياك أن تستوحش من الحق لقلة السالكين، أو تغتر بالباطل لكثرة الهالكين، فليس ممن كان معه الله ورسوله قلة، ولا ذلة ولا وحشة إلى أحد.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن