باحث ومهتم بالفلسفة والادب والاجتماع والسينما، وصانع أفلام قصيرة.
الخوف من الزواج.. ماذا يحدث للشباب العربي؟
يستيقظ العميد مجدي نور (عادل إمام) مدير مباحث العاصمة، على بلاغ عن جثة عريس حديث جرى تجميعها من على قضبان السكة الحديدية؛ حيث ألقى بنفسه أمام القطار يوم صباحيته، ليكتشف العميد أن العريس كريم (ياسر جلال)، قد فشل في إثبات "رجولته" أمام عروسه شيرين (هالة إبراهيم)، فأنهى حياته بطريقة مأساوية. ويتولى العميد مجدي، رئيس مباحث العاصمة، التحقيق في تلك الحوادث؛ لتسفر تحرياته عن تفشي وباء جديد أدى إلى إصابة رجال القاهرة بالعجز الجنسي كظاهرة عامة، نتيجة لتعاظم إحباطات المواطن وعجزه عن تحقيق طموحاته في الحياة، حتى يكتشف مجدي أن الوباء قد طاله هو أيضا.
قدَّم الكاتب وحيد حامد في فيلم "النوم في العسل"، والذي تدور أحداثه حول قصة وباءٍ انتشر في أرجاء القاهرة كافة، حول عجز جنسي أصاب الذكور، مما أدى إلى توتر العلاقات بشكل كبير بين الرجال والنساء وحدوث حالات الانتحار والجنون والقتل؛ حيث استعرض حالة اجتماعية تعبر عن عجز أصاب المجتمع بحد ذاته، عجز سياسي واجتماعي واقتصادي، إلا أن حامد أخفى نقده الحاد للمجتمع تحت غطاء قضية العجز الجنسي.
قُدِّم الفيلم في قالب كوميدي اجتماعي، لكنه عبّر عن أزمة عاصرت المجتمعات العربية كلها، ليس شرطًا أن تكون قضية العجز الجنسي هي القضية الأساسية؛ حيث إن هذا الأمر تتضارب حوله الإحصاءات بين تراجع في القدرة الجنسية لدى العرب والمصريين(1)، وبين هوس جنسي أصابهم(2)، لكن الأمر يبدو أكبر من مجرد قضية جنسية، هي عدة قضايا مترابطة كما قدمها وحيد حامد: القهر والعجز السياسي والتفسخ الاجتماعي والفقر الاقتصادي، وفوق كل ذلك -وكما أوضح فيلم "ليلة سقوط بغداد"- سياق عالمي وإقليمي ومحلي من الغزو والاحتلال يبشر بالعجز الدائم.
التحولات الجنسية بالعالم العربي
مؤخرًا، يمر العالم العربي بعدة تحولات في نسقه القيمي، فبحكم العولمة وموجات التحديث، تولدت العديد من الظواهر والتحولات، وعلى رأسها المسألة الجنسية بكل ما تعنيه من حمولات ونتائج وانعكاسات، تشير لها تقارير ودراسات عديدة ترصد ملامح من تلك الظاهرة الضخمة.
في الدراسة، التي صدرت عن مركز فارس للدراسات والسياسات العمومية (3)، تشير إلى أن الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 15-29، في المنطقة العربية تعرف ارتفاعا في نسب المصابين بداء فقدان المناعة (الإيدز)؛ حيث تحدث عن رقم 460 ألف حالة حسب إحصائيات سنة 2010، وأن الشباب العربي يتعرض لتعاطي المخدرات في سن مبكرة".
أما في المغرب، فقد توصلت دراسة أنجزتها مجلة "ليكونوميست" المغربية، في سنة 2011، إلى أن 55% من الشباب، لهم علاقة عاطفية، و32% ليست لهم علاقات عاطفية، و10% مرتبطون إما عن طريقة خطوبة أو زواج. و1% من الشباب يرجع السبب في عزوفه عن إقامة علاقة عاطفية إلى الخوف من الأسرة، بينما لا يرى العدد الكبير من الشباب أي حرج أو خوف من أسرهم فيما يخص إقامة علاقة عاطفية.
56 ℅ من الشباب القروي تجمعهم علاقات بالجنس الآخر، بشكل يفوق الشباب الحضري، إذ لا تتعدى النسبة 54%، و89% منهم يُقرّون بأنهم مارسوا أول علاقة جنسية ما بين 12 و19 سنة(4).
ومن جهة أخرى، كشفت دراسة علمية لسنة 2008 أعدتها وزارة الصحة المغربية في إطار البرنامج الوطني لمناهضة الإيدز، عن المعارف والمواقف والسلوكيات الجنسية عند الشباب المغربي من خلال عينة 2000 شاب، أن 40℅ من الشباب المغربي يبحثون عن علاقات جنسية بعد استعمالهم للمخدرات والخمور، وكشفت معطيات الدراسة أن فئة الشباب هم الأكثر عرضة لمرض الإيدز؛ حيث إن 68℅ من المصابين هم شباب ما بين 15 و39 سنة، 3℅ منهم تقل أعمارهم عن 15 سنة، وأن 39℅ منهم من النساء(5).
وأفادت الدراسة نفسها أن 32℅ من الشباب المستجوب سبق أن كانت لهم علاقات جنسية سابقة، فيما أكد 65℅ أن لهم علاقات جنسية مع عدة أشخاص، وأن 57℅ من الشباب يرتادون دور الدعارة بعد استعمالهم للمخدرات أو الكحول و21℅ يستعملون العازل الطبي أثناء العلاقات الجنسية، وهم تحت تأثير الخمر أو المخدرات.
وتشير الأرقام والدراسات السابقة، إلى أن العالم العربي يدخل مرحلة جديدة من مرحلة الانفتاح الجنسي، ولعل الدليل على ذلك، هو وجود مؤشرات "مقلقة"(6) حول انتشار العمل الجنسي بالعالم العربي، المغرب ومصر والإمارات تحديدا.
في هذا السياق، نقرأ مثلا نتائج كانت قد توصلت لها المنظمة الأفريقية لمكافحة الإيدز في المغرب حول "العمل الجنسي"، وقد شمل البحث 500 امرأة تعمل في هذا الميدان، إلى أن 31,5% من العينة أميات، و21% لهن درجة جامعية، وأن 60% سبق لهن أن مارسن الجنس في سن مبكرة، و40% مطلقات، و4% متزوجات ويمارسن الجنس للحصول على المال وغياب الزوج. وفي دراسة أخرى، على عينة من مدينة تطوان، تبين للباحث السوسيولوجي أنطونيو مارتن أن 22% من العاملات في الدعارة هن من الشابات القاصرات وأن 16% منهن عذراوات، وهن طالبات وتلميذات لم يفقدن بكارتهن بعد، ويمارسن الجنس بطرق شاذة مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين 100 و200 درهم -تقريبا ما بين 10 و20 دولار أميركي-(7).
ورغم كل تلك الأرقام والدراسات، إلا أن المعطيات تبقى نسبية، لكنها تشير إلى تحولات مهمة وخطيرة في مسألة "الاستهلاك الجنسي" مما يؤثر بالقطع على الممارسات والسلوكيات المجتمعية والقيمية في الوطن العربي، وكذلك تنعكس على التحولات في أنماط التدين والتعاطي مع المجتمع والسياسة.
على صعيد آخر، تشير دراسة لأمر خطير وهو المتعلق بارتفاع ظاهرة الأمهات العازبات؛ حيث يتبين من بعض الإحصائيات المتوفرة، رغم قلتها، أنه في سنة 2010، قامت جمعية إنصاف المغربية بدراسة وطنية حول الأمهات العازبات، وقد توصلت إلى أن هناك 27,199 أمّا عازبة، وضعن 45,424 طفلا في سنة 2009، 21℅ منهن لديهن ما بين 3 و6 أطفال، وأنه في كل يوم، تضع 83 أما عازبة مولودا خارج مؤسسة الزواج(7).
وسط كل تلك الأرقام، يجب أن يظهر سؤال الباحث والمراقب: كيف سيكون شكل المجتمعات العربية في الأجيال القادمة؟ وما كم الاضطرابات والأزمات التي سيعانون منها؛ بسبب تلك الأوضاع "غير الشرعية"؟
اتساع رقعة الجنس خارج الزواج!
يمكن أن نخلص مما سبق من عرضه من دراسات، أن الشباب بحكم التحولات الديمغرافية، كارتفاع نسبة الشباب، والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية: كالبطالة، والاجتماعية الثقافية: كتمدد العمر الدراسي مقارنة مع السابق وتأخر سن الزواج، وصعوبة وجود عمل، ويضاف إلى ذلك، العوامل المتعددة التي تعمل على تغذية واستسهال الممارسات الجنسية، وتغير نظرة المجتمع لهذه الممارسات في الإعلام والسينما.. كل ذلك يدفع أغلب الفئات للوقوع في علاقات جنسية ما قبل الزواج، وبشكل خاص الفئة الشابة.
في تقرير صحفي لجريدة بي بي سي(8) بعنوان "شباب القاهرة يكسرون التابو الجنسي" يتجول الصحفي بين قصص عديدة للعلاقات بين الشباب خارج إطار الزواج؛ حيث يقبع تحت الظاهر المجتمعي وملابس الحجاب والتقوى الظاهرة، عالم كامل خفي من العلاقات بين الفتيان والفتيات، كثير منها يصل للعلاقات الجنسية الكاملة.
ريما خفاش، تعمل طبيبة للنساء في القاهرة بين الأغنياء والفقراء، إذ تقدِر أن حوالي 50٪ من الشباب يمارسون الجنس قبل الزواج. وتعلق خفاش "أعتقد الآن أن هناك ثورة في الجنس بين أجيال الشباب، إنها تفعل ذلك عشوائيا، في كثير من الأحيان في علاقات قصيرة الأجل(9)". وتضيف الدكتورة خفاش "أنا على يقين في أن عدد حالات الإجهاض آخذ في الازدياد، جميع أطباء أمراض النساء يعرفون ذلك، لكننا لا نعرف كم يتزايد"(10). وتقول الدكتورة سحر طويلة من جامعة القاهرة، والتي نسقت واحدة من أكثر الدراسات شمولية عن الشباب في مصر، أن انتشار الجنس قبل الزواج قد طغى بشكل كبير في وسائل الإعلام المصرية(11).
كما أدى الاعتياد على المواقع الإباحية لانفتاح جنسي ونظرة "احتقارية" للمرأة، فحسب موقع أليكسا الذي يسجل المواقع التي يتم تفحصها في المغرب، برسم سنة 2010، سجل 10% من نسبة ولوج المغاربة للمواقع الإباحية، وهي نسبة مرتفعة مقارنة مع المواقع الترفيهية والاستهلاكية والثقافية والعلمية(12)، أما في قائمة الأكثر مشاهدة للمواقع الإباحية تأتي الإمارات على رأس القائمة بعد إيران والولايات المتحدة ثم مصر والكويت والبحرين(13). فيما يذهب تقرير صحفي تحت عنوان "كشف النقاب عن صناعة الجنس في العالم العربي"(14) إلى أن الدخول للمواقع الإباحية في العالم العربي أصبح أمرا طبيعيا، حيث أضحى الولوج لتلك المواقع في البلاد العربية أسهل من الناحية الفنية والتقنية من أميركا، وحتى في بلد مثل السعودية تنتشر بطاقات لفك حجب المواقع المحجوبة.
ويشرح الباحث الديالمي "أن رقعة النشاط الجنسي قبل الزواج توسَّعت، إما تحت ضغط قوّة الرغبة الجنسية عند الشباب وإما باسم الحب أو تحت ضغط أيديولوجيا الاستهلاك الجنسي باسم الصحة النفسية أو باسم التحرُّر. في هذا الإطار، يتم تسجيل محاولات "توفيق" بين الرغبة والتحريم من خلال ممارسات سطحية من دون افتضاض، أو من خلال ممارسات جنسية بديلة"(14).
يحملنا كل ذلك إلى بحرٍ واسعٍ من التساؤلات ليس فقط حول أسباب تلك الظاهرة من اتساع رقعة ممارسة الجنس خارج إطار الزواج في العالم العربي، بل يجعلنا نلقي الضوء على أسئلة أكثر عمقا تتعلق بموجات التغيرات في بنية المجتمعات العربية والتحولات في التصورات القيمية والسلوكية، أسئلة ترقص على إيقاع تحولات عميقة وعامة وشاملة في مجال القيم، والتي تأتي القضية الجنسية كعنوان عريض معبر عنها.
ماذا يحدث؟ محاولات للفهم
عندما يحاول الباحثون تقديم تفسير معقول لما يحدث من تغييرات اجتماعية أو ثقافية، ينحو أغلبهم في اتجاه مقاربتين(15): مقاربة ماركسية، والتي تعتبر أن البنيات التحتية هي الإطار للسلوك الإنساني، أو كما فسر ذلك كارل ماركس قائلا "ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة الاجتماعية، بل إن الحياة الاجتماعية هي التي تحدد الوعي". وهذا يعني أن بروز هذه السلوكيات الجنسية أو غيرها، إنما يرتبط بسياسات اجتماعية-اقتصادية هي التي تحدده، كارتفاع البطالة، وتمدد العمر المدرسي، والهشاشة الاجتماعية وما إلى ذلك من محددات اقتصادية.
والمقاربة الثانية، هي مقاربة قيمية، تأتي من الخلفية الاجتماعية والثقافية، والتي تربط بروز مختلف التحولات إلى وجود ترسبات فكرية وثقافية. ويذهب الباحث الدكتور رشيد جرموني إلى أن من تلك الآثار الثقافية ما عبرت عنه موجة ما بعد الحداثة التي اجتاحت العالم، والتي يشرحها كالتالي:
د.رشيد جرموني (مواقع التواصل)
"فعندما نفحص الخلفيات الحاكمة لموجة ما بعد الحداثة، نجدها تتأسس على ثلاثة مفاهيم مركزية: مبدأ التشكيك، ونعني بها التشكيك في كل القيم السابقة، والمرجعيات الدينية أو الثقافية، ووضعها موضع نقد ونقض". وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم التوجهات الجديدة-القديمة التي تعلن عن تنصلها في كل القيم الدينية ومن الميتافيزيقا.
أما المبدأ الثاني، فهو رفض كل الأنساق المستقرة والمحافظة، والأخطر من كل ذلك تحطيم كل المرجعيات التي تحكم قيم الناس، سواء كانت مرجعية دينية أو ثقافية، أو حتى قانونية. ولهذا اعتبر الباحثان الألمانيان لوكمان، وبيبرغر 1966 أن سبب الأزمات التي تقع فيها المجتمعات، يعود إلى ضياع المرجعيات. ولعل هذا المبدأ الثاني، يذكرنا بالتيار الفوضوي الذي دعا له المنظر الألماني ماكس ستيرنر، عندما اعتبر أن على الأفراد أن ينتفضوا ضد المجتمع وقيمه وثقافته؛ لأنها تحد من حريتهم.
"يشير جرموني إلى أنّ انفجارا جنسيا مُهدِدا بتغيّر بنية المجتمع، وفي أشكال علاقاته. "فالجيل الشبابي الحالي، الذي عايش ظروفا أقل ما يقال عنها إنها تغري بممارسة الجنس، سرعت من حضور الهواجس الجنسية أكثر من الأجيال السابقة""
في حين يشكل المبدأ المركزي الثالث، في هذه القيم التي تدعو إليها موجة ما بعد الحداثة، الاعتراف، ويقصدون به الدعوة إلى "الحرية والتعددية غير المتناهية، ولذلك يؤكد هذا المبدأ على تقبل كل الأذواق الفنية، سواء كانت "وضيعة" أو رفيعة أو "سوقية"، ويهتم أساسا هذا الخطاب، بكل ما هو هامشي ومحظور ومقصي"، ولذلك عبّر المفكر المغربي محمد سبيلا، (2010) عن توصيف ذكي لهذه الازدواجية، عندما أكد أن عمليات التحول القيمي، تتميز بدينامية التقليد والحداثة، فلا القيم التقليدية تموت كلية، ولا القيم الحداثية تحل محلها، بل إنهما يتمازجان بشكل فيه من التداخل والترابط والقطائع أحيانا الشيء الكثير"(16).
وتأتي هذه التحولات مع تصاعد شعارات الحرية والمطالبة بها نتيجة لاختفائها من المجتمعات العربية، المخطوفة والمقهورة من أنظمة تحكمها بالحديد والنار، بجانب ترتيبات السلطة التي تعيد تشكيل كل منظمات ورموز المجتمع والدين لتبقى تحت سيطرتها، فيفقد المواطن العربي -خاصة الشباب بعد الربيع العربي- ثقته في كل من يهادن السلطة ويشرعن ظلمها، فتنهار السلطة المجتمعية والدينية ويبزغ نجم الفرد أو الذات المفردة التي تشرعن وتبرر لنفسها أي فعل باسم التحرر، ويدفعها لذلك شعورها بالظلم والاضطهاد والعجز.
ويشير جرموني إلى أنّ انفجارا جنسيا مُهدِدا بتغيّر بنية المجتمع، وفي أشكال علاقاته. "فالجيل الشبابي الحالي، الذي عايش ظروفا أقل ما يقال عنها إنها تغري بممارسة الجنس؛ فالإعلام والإنترنت وأشكال الموضة الحديثة وتقنيات التواصل السريع، سرعت من حضور الهواجس الجنسية أكثر من الأجيال السابقة".
وكذلك يبدع صناع السينما في الانحطاط؛ فتارةً يمجّدون صفع الأنثى وضربها بعنف حتى تبكي برِقة وأنوثة خاضعة في حضن من يمارس عليها العنف، وتارةً يروّجون للتحرش الجنسي بالقول واللمس والمعنى(17) باعتباره مغازلة ماهرة ينجح بها ذَكَر البط الوسيم في اصطياد أنثى الإخطبوط.
بل تذهب الدراما العربية لأبعد من ذلك بكثير، فتغذي الخيال الجنسي للشباب بأوهام فحولة الذكر العربي التي تخفق له قلوب العذارى وتشتاق إلى لقياها الشقراوات. وتتفنن الدراما العربية في إطلاق العنان للخيال الجنسي فتأتي قصص "زنا المحارم" والاغتصاب والخيانة بكل أنواعها بالإضافة للدعارة والبغاء، بل وأصبحت الفتاة "المضحوك عليها/المغتصَبة/الراضية بالعنف الجنسي" أيقونة للشاشة العربية ولا يضاهيها إلا أيقونة أخرى للفتاة "الداعرة/القوية/صاحبة الرغبة والطلب"، والأمر يمكن تفسيره بأن الدراما أصبحت تخضع للمزاج الدرامي العالمي الذي يعتبر الأجساد العارية والجنس ركيزة أساسية فيه، ويخضع بذلك المزاج بوصفه انعكاسا لرغبة السوق وما يُقبل عليه المستهلكون من تحقيق لرغباتهم المكبوتة.
الجنس وثقافة الاستهلاك
الإنسان الاقتصادي والإنسان الاستهلاكي عند باومان يشيران إلى رجال ونساء بلا روابط اجتماعية، "إنهم السكان المثاليون لاقتصاد السوق والأنماط التي تبث السعادة في نفوس مراقبي الناتج القومي الإجمالي" (مواقع التواصل)
يشرح باومان في كتابه الأهم "الحب السائل"، كيف تحولت علاقات الحب والزواج القائمة سابقا على المودة والرحمة، إلى علاقات جنس تقوم على المتعة فقط، وكيف أن الجنس الذي كان قديما غريزة إنسانية أصيلة تدفع البشر لإقامة علاقات إنسانية وروابط اجتماعية تقوم عليها الحضارات ولا تستقيم المجتمعات الإنسانية إلا به، أصبح ليس فقط دافعا لسوق الاستهلاك، بل أصبحت الغريزة نفسها مجرد سلعة.
ويعلق فولكمار زيغوش(18) وهو متمرس يتلقى كل يوم بضحايا "العلاقات الجنسية العابرة" فيقول "ترتدي أشكال العلاقات الحميمية السائدة كافة هذه الأيام قناع السعادة الزائفة الذي كان الحب بين الأزواج يرتديه، فعندما أمعنا النظر ونزعنا القناع ظهرت لنا رغبات محبطة وأعصاب محطمة وحب خائب وجراح ومخاوف ووحدة ونفاق وأنانية وقهر. كما حل الأداء الجيد في الفراش محل الإحساس بالنشوة. أما العفة والزواج والاختلاط المستهجن فقد أزيلت جميعها تماما من الحياة الحرة للتجربة الجنسية الحسية"، لكن ماذا يصنع المستهلك إذا ما حرمه التجار من البضائع؟
الجنس والقهر في العالم العربي
في العصر الحديث، صار الإنسان الذي عوّدته الشركات الضخمة للبضائع وحكومات الأرباح من البضائع على هوس الاستهلاك، إنسانا باردا؛ حيث انعكست علاقاته الباردة على جميع من حوله(19)، فالإنسان الاقتصادي والإنسان الاستهلاكي عند باومان يشيران إلى رجال ونساء بلا روابط اجتماعية، "إنهم السكان المثاليون لاقتصاد السوق والأنماط التي تبث السعادة في نفوس مراقبي الناتج القومي الإجمالي"(20)؛ لذلك فإن محاولات الرجال والنساء لخلق حياة دافئة تستقل عن اقتصاد السوق، يواجهها التجار وأصحاب الشركات بعنف مروع؛ حيث عمِل اقتصاد السوق الحر على تفتيت الاقتصاد القديم القائم على الاكتفاء الذاتي والتصنيع المنزلي والاستغناء عن منتجات السوق؛ ونتيجة لذلك، أصبحت أجساد الناس وأرواحهم مستباحة لقيم الاستهلاك.
من هنا يمكن أن نفهم كيف ولماذا تسعى السلطة لبقاء علاقتنا ببعضنا منتهكة وسريعة وباردة، يمكن تدميرها بسهولة، أن تبقى علاقاتنا مفككة، مما يؤدي لتفكك الفرد والمجتمع، من ثم يقود ذلك إلى القهر، والقهر الذي تمارسه السلطة على مواطنيها ينعكس في سلوك كل مواطن على مواطن آخر أضعف منه، ويمارسه الذكور على الإناث ويتجلى هذا بشكل فج في العلاقات الجنسية والعنف بين الأزواج والزوجات، وحالات التحرُّش، ففي حالة تحرش قام المغتصبون بطعن فتاة بسكين في عضوها التناسلي في ميدان التحرير.(21)
ومثلما جاء في فيلم "سوق المتعة"، يتحول الإنسان المعذب المنتهك لحالة حب لجلاَّديه، فالإنسان العربي يشبه شخصية أحمد (محمود عبد العزيز) الذي يحاول السفر لكسب لقمة عيشه فيتحول كيس الفستق في جيبه لكيس هيروين تدسه له إحدى عصابات المخدرات، فيقبع في السجن مدة عشرين سنة دون أن يعلم كيف تحول كيس الفستق إلى مخدرات، وبعد أن يقضي مدة محكوميته بسيرة محمودة في السجن يخرج ليعيش ما تبقى من حياته.
ثم يلتقي أحمد بشخص (فاروق الفيشاوي) الذي يزوره ويخبره أنه مبعوث من عصابة تتاجر بالمخدرات وأنه دخل السجن بسبب استبدالهم لكيس الفستق بالمخدرات وأنه كان جزءًا من خطة وضعتها العصابة لإلهاء المفتشين لتمرير كمية كبيرة من بضاعتهم ولكن على حساب أحمد الذي يزج به في السجن بسبب ذلك؛ ولأنهم اعتبروه شريكا في تلك الصفقة فقد أدخلوا حصته في أعمالهم فربحت، ويمتلك الآن أكثر من سبعة ملايين جنيه جراء ذلك.
يفرح أحمد بالمبلغ ولا يناقش الرجل كثيرا عن جريمتهم التي كلفته سنين عمره، فقد علمه السجن أن يكون مطيعا كالعجينة لا يناقش في أمر ما. ترسل له العصابة مساعدين لحين تأقلمه على وضعه الجديد وهم يقومون بخدمته بحفاوة كبيرة؛ لكنه يجد صعوبة في التأقلم مع وضعه الجديد ولا يحب الرفاهية التي وجد نفسه فيها فيجافيه النوم في سريره الوثير في الفندق الفاخر ويفضل عليه النوم في دورة المياه، ويكره الأماكن المفتوحة والواسعة مفضلا عليها الأماكن الضيقة والنتنة وقليلة الأوكسجين، ويتصرف بشكل غريب، يوضح حنينه إلى السجن، وتعرضه للأمر والنهي واللوم والتقريع من سجانه، ثم لا يكتفي بذلك، بل إنه يعمل على شراء مكان معزول كعزلة السجن ويتوسل للضابط المسؤول عنهم في السجن بعد تقاعده، والذي كان أحمد شديد الإعجاب به وبقسوته، فيدفع له راتباً مغريا ليؤدي دور مدير السجن.
ثم يجمع زملاءه في السجن ليعيشوا سجنهم ويحرص حتى على أن يجلب سجيناً (سامي سرحان) كان يذل السجناء ويجبرهم على الرضوخ لرغباته الشاذة والسادية وكان يستمتع بتقريعه وضربه وإذلاله! فقد اعتاد على وضع ألفه طوال عشرين عاما.
"يربط باومان بين السلطة والجنس والعري فيقول "أما جميع البشر الآخرين الذين ربما يطرقون باب الدولة السيادية طلبا للدخول، فعادة ما يخضعون بداية إلى طقوس خلع الرداء"، فخلع الرداء هنا يأتي بالمعنى الحقيقي والرمزي، وتستخدمه السلطة كنوع من أنواع السيادة"
يريد أن يبين لنا الفيلم أن شخصية أحمد تعاني من مرض حب الاضطهاد وحب إيلام النفس وإذلالها بل يعاني من اضطرابات نفسية تظهر في طلباته من بائعة الهوى أن تفعل أوضاع غريبة وغير طبيعية ويكتفي هو بدور المشاهد الذي اعتاد عليه داخل السجن، وهذا ما حدث بالضبط للإنسان العربي، فلو كان وحيد حامد قدم الشخصية وقد وقعت تحت وطأة ظلم من جهة مجهولة وهي العصابة، فالإنسان في العالم العربي وقع تحت استباحة جسده من قبل السلطة -بمفهومها الواسع- وظروف المعيشة المادية.
وتشارك الأنثى -بالطبع- الذكر في القهر المعيشي والسياسي، فيتعرض الجسد للإذلال في تفاصيل الحياة اليومية؛ تنقطع عنه الكهرباء، فيتوقف موتور رفع المياه في العمارات الخرسانية المرتفعة، فلا يجد ما يغسل به وجهه صباحا، ويعمل في عطلةٍ من المراوح ومكيفات الهواء في قيظ الظهيرة، أو يتناول عشاءه في الظلام(22).
"تنتهكه المواصلات العامة، ويخنقه المرور في سيارته الخاصة. ترهقه طوابير البيروقراطية، وتذل شركات الاتصالات والإنترنت أنفاسه. يتوزع إذلال الجسد على حواسه الخمس. يسمع ضجيجا مزعجا، يرى قُبحا منفّرا، يتنفس هواءً مسمما، يشرب ماءً ملوثا، يأكل طعاما مسرطنا.. وحين يريد الفرار، تعترضه العوائق المحلية والأجنبية من تصريح السفر إلى تأشيرة دخول البلاد الأخرى. يعود في نهاية يومه، بعد مسيرة طويلة من إذلال البدن والروح والإرادة، فيجد الشيب في شعره ولا يجد رفيقة في سريره"(22).
ويتعلم الإنسان العربي ذلك العنف الذي يظهر في علاقته الجنسية والأسرية وفي ظاهرة التحرش، مما يتلقاه يوميا من السلطة، ومما تعلمه السلطة من بروتوكولات للعنف اليومي، سواء العنف المادي أو الرمزي. تعلِّم السلطة الإنسان العربي التعود على العنف والقهر وأن العنف طريقة للسلوك في الحياة اليومية، ومفتاح مقبول لحل المشاكل، وتعلمنا السلطة كيف أن مفاهيم الذكورة والفحولة القاهرة التي تمارسها الدولة، هي سلوك الفحل القوي المسيطر والذي يقهر بقوته باقي الذكور، فينحي للفحل الذكر -رأس الدولة- كل ذكر آخر، ويعلمه كيف يقهر الذكور والإناث على حد سواء، ويمارس الذكور الأضعف قهرهم وعنفهم على الذكور والإناث الأضعف منهم، وتستمر ظاهرة تمرير العنف، حتى تقف عند كارثة اغتصاب أو تحرش أو خطف أو غيرها من جرائم.
ويربط باومان بين السلطة والجنس والعري فيقول "أما جميع البشر الآخرين الذين ربما يطرقون باب الدولة السيادية طلبا للدخول، فعادة ما يخضعون بداية إلى طقوس خلع الرداء"، فخلع الرداء هنا يأتي بالمعنى الحقيقي والرمزي، وتستخدمه السلطة كنوع من أنواع السيادة؛ حيث يأتي تحت هذا التعري ما يسمى بغسل العقول في السجون، وانتهاك الأجساد، وهتك الأعراض داخل السجون وخارجها(23).
ومما سبق فإن مسألة الجنس في العالم العربي وانتشارها وتحولاتها ترتبط ارتباطا وثيقا بالقهر والظلم والأنظمة الديكتاتورية، والحكم العسكري، وعصر الاستهلاك والانتهاك الذي نمر به جميعا.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة