التعلق بالوصول لا المسير
تخيل أسرة خرجت في نزهة بالسيارة، متوجهة لجهة بعينها، تمر عبر طريق زراعي يطل على مناظر خلابة. وفي حين راحت الأم والأطفال يستمتعون بوقت الرحلة ويناقشون ما يرون، كان فكر الأب وهمه كله منصباً على انتهاء القيادة لبدء الاستمتاع بالنزهة، وانتقاد الطريق المليء بالعقبات المانعة من سرعة الوصول. ثم قدّر الله أن عثر أحد إطارات السيارة بمسمار في الطريق فثقب، ولم تتمكن الأسرة من الاستمرار، وبشق الأنفس وجدوا من يحملهم عائدين للمنزل. أيّ الفريقين سيكون أشد إحباطاً، ويعتبر اليوم بِرُمَّته "ضائعاً"؟!
بحكم كون كل فرد منا هو "السائق" الأساسي في مقعد حياته، فعيننا بطبيعة الحال دائماً على المحطة والوصول والإنجاز والانتهاء. وقد يبدو أن ذلك أمارة من أمارات "التركيز على الهدف" كما تسميه مواد التنمية البشرية، لكن هل يمكن أن يغدو ذلك أحياناً مرادفاً لتحجر الرؤية في مسارات الحياة؟ فلو أنك مكان الأب في القصة أعلاه، وكل انتباهك وحواسك متوجهة للعثور على لافتة إرشادية بعينها تشير لمحطة الوصول، ما كمّ ما يحتمل أنه فاتك من متعة أو فرص متعة على مدار الرحلة، لأنك كنت "محجِّراً" لا مركّزاً طاقاتك كلها عند بلوغ تلك المحطة؟
التركيز لا يمنع مرونة ملاحظة التغيرات التي تطرأ على الطريق أو التنبه للعوارض التي تشير لوجهات أخرى وربما عواقب أحسن، وإنما التحجّر يفعل ذلك. ثم هَبْ أنه لم يتيسر لسبب ما الوصول لتلك المحطة بعينها كما حصل معهم، أتصير الرحلة كلها بلا معنى ولا هدف ولا نفع ولا أثر؟
هَبْ أنه لم يتيسر لسبب ما الوصول لتلك المحطة بعينها كما حصل معهم، أتصير الرحلة كلها بلا معنى ولا هدف ولا نفع ولا أثر؟
وخذ كمثال واقعي، كم طلبة العلم الذين يضيع عليهم إتقان العلم من حيث هو علم، لاشتغالهم بمجرد التفوق من حيث تحصيل علامات الامتحانات، وذلك يتأتى بأيسر جهد من حفظ أصم لملخصات مبتورة أو إتقان وسائل غش!
وكم ممن يشتغلون بتحصيل تخصص علمي معين، يهملون على مدار سنوات دراسته أي علوم أو مهارات أخرى يتاح اكتسابها بشيء من حسن التنظيم والتوزيع للجهد، ثم حين لا يحوزون ذلك التخصص في النهاية، أو لا يتاح الاشتغال المهني به، وجدوا أيديهم صِفراً من كل طاقة أخرى!
لذلك لا عجب من بحور الدرامية التي يغرق فيها من يفوتهم الوصول لمحطة هدف ما لسبب ما، فتَعدَم حياتهم برُمَّتِها عندهم كل معنى، ويصير كل ما يلي ذلك المُبتَغى الفائت هباءً منثوراً! والإشكال ليس من الحياة أو أقدارها، وإنما ممن علّق الحياة على ما ليس بعلّاقة حياة، وأناط طوق النجاة بما ليس طوقاً، ناهيك أن يكون نجاة! والحقيقة أن حياة أولئك من البداية فقدت ما كان يمكن أن يكون فيها من معاني، وما كان يمكن أن يتحصّل منها من بناء، بتلك النفسية المتشجنة على الانتهاء قبل البدء ، وعلى سرعة عبور الحياة لتصل لقمتها النهائية، التي هي في حقيقتها قاع القبر ليس إلا! وتأمل في قول الله تعالى، مُخبراً عن تحسّر ابن آدم يوم القيامة، وتندّمه على تفريطه في الصَّالِحات من الأعمال في الدنيا: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]. فحياتنا الحقيقة -كما سنفصل في السؤال التالي- حياتان: دنيا وآخرة. وبينهما اتصال وتراتب. لكننا نستبق حياة قبل أوانها، ونأخذ الأخرى بغير حقها.
العبودية المرادة بنا ولنا في الحياة ليست على الحقيقة هدفاً أو أهدافاً معدودة يفترض بنا أن ننجزها، بل هي في جوهرها شخصية ينبغي أن "نكوّنها"، و"نهج" حياة ينبغي أن "نحياه" لا أن "ننتظره"
وإن العبودية المرادة بنا ولنا في الحياة ليست على الحقيقة هدفاً أو أهدافاً معدودة يفترض بنا أن ننجزها، بل هي في جوهرها شخصية ينبغي أن "نكوّنها"، و"نهج" حياة ينبغي أن "نحياه" لا أن "ننتظره". وما نكوّنه بناءٌ لا يبزغ في يوم وليلة، ولا يقوم على المحطات "الكبرى" في الحياة فحسب، كالتخرج أو الوظيفة أو الزواج. بل هو يتشكل شيئاً فشيئاً على طول رحلة فيها تلك المحطات وما بينها ، والصغير منها مهم كالكبير، بل أحياناً أهم وأبقى.
وكل خطوة نخطوها على طول الطريق قيمتها في عبودية وقتها ما ابتغينا بها وجه الله تعالى، فلها بالتالي معناها المستقل في نفسها ونفعها الفريد في بنائك الكلي، سواء تعرّج بك الطريق لهدف لم تقصده، أو أدّى بك آخر المطاف لما ابتغيت أوّله؛ وسواء أُذِنَ لك بالوصول للمحطة التي كانت في بالك، أو لم يؤدّ مجموع خطواتك إليها. تظل كل خطوة في نفسها -بحُلوها ومُرّها- نافعة ما انتفعتَ بها، ويظل حسابك عليها قائماً، سواء استحضرت مسؤوليتك عنها.. أو اعتبرتها "ضائعة"!
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن