نظرتنا إلى تفاوت النعيم في الدنيا.. بين الغيرة والزهد
ثمة قوانين في حياتنا اتفق أصحاب الاختصاص على تقنينها وفرضها من أجل تحقيق أكبر قدر من الأمان والراحة والطمأنينة إن سار الناس عليها والتزموها، ومع أنها قوانين وضعت من قبل بشر يؤخذ من قولهم ويرد إلا أن ثقتنا بتلك القوانين لا تتزعزع لأنها وضعت وصيغت من أصحاب الشأن والاختصاص.
وهب مثالاً على ذلك السلامة على الطرق وقوانين إشارات السير والمرور والتي إن لم يوجد الوازع الذاتي لاحترامها والتزامها جاءك الوازع الخارجي المتمثل بالمخالفات المرورية لكل مخالف متعد، وعلى ما أذكر فقد تعرضت ذات يوم صبية لحادث سير وكانت الوحيدة التي تلتزم بوضع الحزام دون سائر أصدقائها في السيارة وفي نفس الوقت كانت المتأذية والمتضررة الوحيدة من بين كل الركاب بل إن الحزام كان السبب في إصابتها إصابة بالغة لولا العناية الربانية التي تداركتها، ومع ذلك يظل وضع الحزام أثناء ركوب السيارة قانوناً يخالف كل من لا يضعه.
ما سبق مثال بسيط من واقع الحياة التي نحاول أن نحياها بأقل الخسائر وبأكبر مساحة من الهدوء والأمان، وعجبت لمن يفطن لقوانين الأرض وما لها من أثر في تحقيق سعادتنا وتقليل خسائرنا لأقل حد في الوقت الذي نغفل به عن قوانين السماء التي شرعها ووضعها لنا الذي خلقنا وأوجدنا ويعلم ما يلائم حياتنا دون أن يغفل ما يحقق لنا سعادتنا في الحياة الأخرى.
قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه:131]، آية قرآنية نتلوها ونمر بها مرور الكرام دون أن تتفاعل معها أنفسنا وتتخذها قاعدة مرورية في طريق سيرها إلى الله عز وجل مع أننا ندرك حقيقة أنّ الذي شرّعها لا تخفى عليه خافية وأنّ الشرائع والقوانين الربانية فيها من المرونة والثبات ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، والجدير بنا أن نقف عليها مع أنفسنا وقفات:
أولا: النهي عن النظر للمترفين فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظائرهم، وما هم فيه من النعم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة" (تفسير ابن كثير) فإذا كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لم تشغله الدنيا عن مقام العبودية لله فبلغ أمانته وأدى رسالته على أتم وجه، فإنه أحرى بنا أن نقف مطولاً عند هذه الآية ونقتفي أثر الرسول الأكرم ونحذوا حذوه ونحن فينا من عوارض البشر ونقائصهم ما يجعلنا عرضة للتقصير في كل وقت وحين.
ثانيا: إن هذا النعيم الدنيوي الذي عبر الله عز وجل عنه بالزهرة وذلك لأنّ الزهرة عمرها قصير وإن طال فلذائذ الحياة الدنيا إلى فناء وزوال، وإن هو إلا نعيم لابتلاء المترفين المنعمين واختبارهم فيه وما هم فاعلون اتجاهه هل هم من الشاكرين أم من الجاحدين، لقوله تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: "لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم" (تفسير الطبري).
ثالثا: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} فزهرة الحياة الدنيا المتمثلة بهذه النعم التي هي ضرب من ضروب الابتلاء مهما امتدت وطالت فهي إلى زوال ويظل ما عند الله الذي وعد به نبيه ومن تبعه أدوم وأبقى، وقد جاء حول تفسير هذه الآية الكريمة: "ورزق ربك الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى وهو ثوابه إياه خير لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا وأبقى وأدوم لأنه لا انقطاع له ولا نفاذ" (تفسير الطبري).
وبعد هذه الوقفات الجليلة تجد أن هذه الآية الكريمة قاعدة ربانية كفيلة أن تجتث الشرور من أساسها إن فقهناها والتزمناها لتصبح سلوكا عمليا واقعيا في حياتنا لا مجرد كلمات تتلى بليل وتُنسى بنهار، فتسير حياتنا وفق نظام لا تخترقه الشرور والأحقاد والضغائن.
(ولا تمدن عينيك) فيها نهي رباني وقاعدة عريضة تعمل كما المنظم لدقات القلب إن وضعناها نصب أعيننا نظمت علاقاتنا وضبطتها على كافة المستويات إذ تصوّب نظرتنا للأمور فلا تبقى نظرة قاصرة مادية محصورة في حدود متاع هذه الدنيا الزائل
(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) نهي رباني وقاعدة عريضة تعمل كما المنظم لدقات القلب إن وضعناها نصب أعيننا نظمت علاقاتنا وضبطتها على كافة المستويات إذ تصوّب نظرتنا للأمور فلا تبقى نظرة قاصرة مادية محصورة في حدود متاع هذه الدنيا الزائل، إذ بها من التوجيهات السامية ما يريح النفس من آفاتها ويضبط معيارها في وزن الأمور ومن هذه التوجيهات الربانية:
1. عدم النظر لترف المترفين نظر المستغرق الذي يشغله هذا النظر عن حقيقة وجوده ورسالته في الحياة، وتحذر من أن نجعل متاع الدنيا وزينتها الشاغل الأساسي لنا فينسينا ذلك حقيقة وجودنا فنأسى ونتحسر على ما فاتنا منه، وللزمخشري في الكشاف كلام حول هذا في تفسيره للآية الكريمة:
"(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) أي نظر عينيك: ومدّ النظر: تطويله، وأن لا يكاد يرده، استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به، وتمنياً أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] حتى واجههم أولو العلم والإيمان بـ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]".
وفي هذا النهي المتمثل بعدم إطالة النظر للمنعمين سواء من شكر منهم أم من جحد راحة نفسية للنفس وتخليصها من آفة الحسد والمقارنة بأوضاع الآخرين فكل ذلك آفات تشغل المرء عن رسالته وتحول الوسائل في حياته إلى غايات يموت ظمأ في السعي واللهاث خلفها فتتحول إلى نقمة ووبالاً عليه إن فقد القناعة والرضا وظل مشرئباً متطلعاً لما بين يدي غيره، لذا لا عجب أن تجد نبي الأمة أزهد الناس بالدنيا مع قدرته عليها بل ويخاف علينا من أن يفتننا هذا النعيم لقوله صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا قالوا وما زهرة الدنيا يا رسول الله قال بركات الأرض" (رواه مسلم).
في هذا النهي المتمثل بعدم إطالة النظر للمنعمين سواء من شكر منهم أم من جحد راحة نفسية للنفس وتخليصها من آفة الحسد والمقارنة بأوضاع الآخرين، فكل ذلك آفات تشغل المرء عن رسالته وتحول الوسائل في حياته إلى غايات يموت ظمأ في السعي واللهاث خلفها فتتحول إلى نقمة ووبالاً عليه إن فقد القناعة والرضا وظل مشرئباً متطلعاً لما بين يدي غيره
2. التعلق دائما بما عند الله فما عنده لا ينفذ ولا يفنى وأن الرزق لا ينحصر في أموال وغنى، فكم من غني فقير على الحقيقة جاء للدنيا وخرج منها كما جاء دون أن يعمل لدار خلده وبقائه شيئا فحرم نعيم الدنيا الحقيقي المتمثل بطاعة الله والاستجابة لأوامره واجتناب نواهيه، وخسر نعيم الآخرة الممتد غير المنقطع بإعراضه عن آيات ربه، وكم من فقير بات طاوياً على جوعه غير أن غناه في تعلقه ورجائه بما عند الله .
3. أن من يفرغ نفسه من هموم الدنيا ويجعل همومه همّا واحدا وهو همّ الآخرة يكفيه الله ويجمع له أمره ويجعل غناه في قلبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة" (رواه ابن ماجه).
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن