شيءٌ من ذاكرة أقبية عسقلان
كتب بواسطة لمى خاطر
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
2292 مشاهدة
قالت لي موظفة الصليب الأحمر يومها، وقد جاءت لزيارتي في سجن عسقلان: "ليس هناك تحقيق يستمر للأبد"، كانت تحاول بكلماتها البسيطة هذه مواساتي بعد تأثرها بما سمعته مني حول ظروف احتجازي، والتحقيق المرهق والصعب والمستمر الذي يجري معي، وتتصاعد قسوته يوماً إثر آخر.
غير أن كلماتها تلك كانت مثل جدول دقيق وشحيح المياه ينساب بصعوبة وسط ركام من الأتربة والصخور، وهكذا كان قلبي يومها؛ بيداء مركومة مساحاتها بالصخور الصلدة، فيما كانت غيوم الأمل تهطل عليها على استحياء، أما نسمات اليقين فكانت تطرق أبواب هذا القلب طويلاً قبل أن يفتح لها منتشيا، ونابذاً من أروقته بقايا الأسى.
ابتسمتُ يومها بصعوبة وأنا غارقة في محراب صمتي، نظرت إليها بامتنان، لكنني وعيتُ جيداً الفرق بين هدهدة الجرح واستشعار ألمه، ومع ذلك ألزمت نفسي بالتقاط تلك العبارة وجعلها جزءاً من حديث مواساة روحي اليومي فيما بعد، إلى جانب دعاء: "اللهم أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين".
كانت الأيام تمضي بطيئة، وكانت لحظاتها موحشة ومقفرة وشحيحة الضياء، كان التعب يستغرق كل جسدي بفعل الشبح على كرسي التحقيق باستمرار والحرمان من النوم، لكنّ صوتاً داخلياً كان يهمس في أذني باستمرار: " في يوم آتٍ لا محالة ستقفين على ربوة عالية وتنظرين إلى هذه الأيام من بعيد، وتتذكرين تفاصيلها، وستدركين جيداً أن هنالك فرقاً شاسعاً بين الخلاص المحفوف بالعزة، وذاك المكلل بندم لا ينتهي، وأن هناك كذلك فرقاً بين أن تدلفي إلى اليوم التالي لنهاية مرحلة التحقيق ورأسك مرفوع يتنسّم هواءً نقيا، وبين أن تصلي إليه خافضة الرأس، مختنقة بعبرات الأسى ولسع الضمير".
هذا الصوت الداخلي ظلّ معيني ورفيقي طوال تلك الأيام المعتمة، ثم ما لبثتُ أن تعلمت جيداً أن ثمة معارك في هذه الحياة لا تخاض بالأسنّة، بل بالمواقف العالية، بالصمت الجليل، بالابتسامة الهازئة بمنطق الطغاة، وبالعناد النبيل.. وأن استشعار القوة والعيش في أفيائها ممكن، حتى وإن كان المرء مجرّدا من العتاد، وكان عدوّه مهيمناً عليه، ومقيّداً إياه في سجونه.
وحينما أبصرتُ النور وخرجت من عتمة أقبية عسقلان لم أنظر خلفي، لأنني كنت أدرك أن شارة نصر غير مرئية قد ارتسمت هناك على جدران الزنزانة الجرداء، كان سجاني أول من رآها، فيما ظللتُ أحملها في قلبي، لتسقي بذور يقيني، وترعى حلمي بحتمية الحرية والإياب.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة