شرع الله وتشريع البشر: فارق المنطلق والمنتهى
من الفوارق التي يغفلها غالب المسلمين اليوم، بل تكاد تكون اندثرت عند كثيرين: فارق المنطلق والمنتهى بين عقيدة التوحيد وبقية المعتقدات والفلسفات الوجودية، أي الفارق في جذور نشأة وعواقب اتباع التصوّر الإلهي للوجود كما قرّره خالقه جلّ وعلا، ومختلف التصورات البشرية والفلسفات الوجوديّة المبتدعة أو المُحرّفة من المخلوقين، وحدها عقيدة الإسلام لله تنزّلت رأساً من السماء، بينما كل التصورات البشرية على اختلافها نبتت فرعاً من الأرض ، وبناء على اختلاف المنشأ، تتباين الوجهة التي ينتهي لها كل من التصورين، والغاية أو المآل اللذان يدفعان لهما معتنقهما، تلك الغفلة عن ذلك الفارق إحدى أهم أسباب تخبّط حركة المسلم في الوجود، وتيهه في غياهب الكون وعن مقاصد الحياة.
وفي عصر العلم السيّال أو السيولة العلمية هذا، ابتَلَعنا خِضَم عاتٍ من المستوردات الثقافية المنهالة علينا من الشرق والغرب، خاصة في ظلّ سطحيّة علمنا بديننا وهشاشة ثقافتنا وهلامية تصورنا المسلم للوجود، وانبهرنا انبهاراً ساذجاً بالالتقاء السطحي أو التّماسِّ العابر في بعض مفاهيم واصطلاحات وأفكار، بين ما نعلمه من تصوّر الإسلام وما وصلنا من التصورات البشرية، فتوهّمنا أنّ ذلك التماسّ يعني تقاطعاً مشتركاً ومساحات تماثل حقيقي، ومع استمرار انهمار المستورد الدخيل وازدياد الجهل بالأصل الأصيل، أخذت تَرِقُّ في عين الناظر المسلم وفهمه معالم الحدود الفاصلة بين الكفّتين، ثم تنطمس وتتلاشى شيئاً فشيئاً، حتى بدا له أخيراً ألا كبير فرق بين تشريع السماء وتشريع الأرض!
فصار الإسلام في تقدير المسلم المعاصر عامة لا يعدو ثقافة من بين ثقافات أخرى، واعتقاداً من بين اعتقادات كثيرة، تتساوى أو تتشارك كلها في فكرة الإله بشكل ما، وتدعو لمكارم الأخلاق الفطرية المشتركة بين كل البشر بدرجة ما، وتشجع على الوئام الحضاري والسلام الكوني، وتقرّ الحقوق العالمية لكل الناس... إلخ، فلا بأس في هذا الثراء الفكري والتنوع الثقافي، وكلّ ينتقي ما يعجبه بأريحية وبساطة!
صار الإسلام في تقدير المسلم المعاصر عامة لا يعدو ثقافة من بين ثقافات أخرى، واعتقاداً من بين اعتقادات كثيرة
وحقاً لا إشكال في ذات التشابك الثقافي والتداخل الحضاري مع التصوّرات الأخرى، لكن الإشكال كلّ الإشكال في ذات انطماس معالم الفروق بين الكفّتين كما ذكرنا، وأعظم مكامن القلقلة والخلل هي في أن يستقر مثل ذلك المنظور الوجودي غير المسلم عند الناظر المسلم! فكأن العمى والإبصار عند المسلم سِيّان! لذلك يكون تأثر المسلم المعاصر غالباً بأيّ آخر من أيّة مِلّة أو ثقافة تأثّراً غير سَوِيّ، وأخذه عنه غير صحيح، بل ومُضِرٌ له من حيث إنه يزيده التباساً في الفهم عند محاولات الأسلمة الهزيلة للثقافات المستوردة، وتَخبّطّاً في التطبيق عند محاولات التوفيق الحائر بين متناقضات سببها اختلاف المنطلق وافتراق المنتهى.
لا إشكال في ذات التشابك الثقافي والتداخل الحضاري مع التصوّرات الأخرى، لكن الإشكال كلّ الإشكال في ذات انطماس معالم الفروق بين الكفّتين
وأُولى مبادئ إصلاح هذا الخلل البدء من المنطلق، والانطلاق من الجذور، وترك منهجية الردود على الشبهات المعجونة نهاية، لمنهجية تصحيح التصورات المُعوَجّة بداية، وذلك بفهم التصور الشرعي للوجود أوّلاً على وجهه كما أراده خالقه، بما ينفي ثلاثة أرباع ذلك العجين والاعوجاج، الناشِئَيْن من الجهل وسوء الفهم حقيقة ليس إلا، ثم يكون بعد ذلك البناء على التصور الصحيح من أصوله، والتوسع في مختلف الوجهات والمعارف على بصيرة وبيّنة، تؤهّل صاحبها للانتفاع والإفادة مما لدى الغير، دون أن يتزعزع تصوّره الأصلي أو تنطمس هُوّيته الأصيلة.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن