في تاريخنا القديم، مَـجَرّةِ الحضارة، كانت اللّغة العربيّة شغل الجميع من أصحاب الـتّصنيف، فأكثر من خطُّوا كتبًا بهذه اللّغة الأنيقة في أيّ مجال معرفيّ كانوا يتقنونها بطبيعة الحال، وعلاوة على ذلك كانت لهم أبحاث فيها، أو كتابات إبداعيّة، إذ لا يتصوّرون أنفسهم ذوي خطر في الفكر والمعرفة، إن لم يمرّوا بعاصمة الحَرْفِ، ومعدِن الكلام.
لن نتحدّث عن أصحاب الكتابات الدّينيّة كالتّوحيد والفقه وأصولِه والـتّفسير والحديث، فهؤلاء من نافل القول أن تكون اللّغة عندهم في صدارة الاهتمام. ها هو السّيوطيّ (911ه/1505م) يسرد في "الإتقان" ما ينبغي أن يحويه المفسِّر من علوم، فيبدأ بالعلوم اللّغويّة، وهي إدراك معاني الكلمات، والنّحو، والتّصريف، والاشتقاق، وعلوم البلاغة.
من أمثلة المهتمّين باللّغة، وهم من خارج حَصرِيّة هذا الإطار، جابرُ بن حيّان (197ه/815م)، وهو عالم الكيمياء والفلك والهندسة والطّبّ والصّيدلة، لكنّ له أيضًا "كتاب الـتّصريف" الّذي يوازي فيه بين الحروف والطّبائع، مُعلنًا أنْ لا فرق في حقيقة الأمر بين تصريف الكلمات وتصريف طبائع الأشياء.
ومن ذلك الفارابيّ (339ه/950م)، فهو في الأصل فيلسوف وعالم في الأنغام، لكنّه كتب أيضًا في اللّغة مصنّفَه القيّم "الحروف".
ومن ذلك ابن سينا (427ه/1037م)، فهو الفيلسوف والطّبيب، لكنّه صاحب كتاب لغويّ فاخر أيضًا، هو "أسباب حدوث الحروف"، وله قصائد كثيرة، منها قصيدته العَينيّة في الـنَّفْس "هبَطَتْ إليكَ مِنَ المحلِّ الأرفَعِ".
ومن ذلك ابن رُشْدٍ الحفيد (595ه/1198م)، فهو فيلسوف وطبيب وفقيه، وعلاوة على ذلك له كتاب مميّز يحمل اجتهادًا خاصًّا في تقسيم مباحث اللّغة، هو "الضّروريّ في صناعة الـنّحو". وفي العصر الحديث أمثلة وافرة.
فمن الأطبّاء المصريّين الّذين اختطفهم الأدب الشّاعران إبراهيم ناجي (1953م) صاحب قصيدة الأطلال، وأحمد زكيّ أبو شادي (1955م)، والرّوائيّان يوسف إدريس (1991م)، ومصطفى محمود (2009م). ولقد أعدّ أمير محمّد نبيل في السّنوات الأولى من الألفيّة الثّالثة برنامجه الثّقافيّ "أطبّاء لكن أدباء"، وأخرجه رضا الجبريّ، وعملتْ على إنتاجه إذاعة البرنامج الثّقافيّ في القاهرة.
وفي عام 2008م، افتُتح الملتقى الثّالث للأطبّاء الشّعراء، في قاعة الدّكتور سامي الدّروبي الملحقة بالمركز الثّقافيّ بحمص، وكرَّمت النّقابة أطبّاءها الشّعراء: عبدو مسّوح، ومروان عرنوس، وعبد المعطي دالاتي. ومن أطبّاء بلاد الشّام أيضًا الشّاعر الحمويّ وجيه الباروديّ (1996م).
وأصدرت في عام 2005م اللّجنة الثّقافيّة في نقابة المهندسين الأردنيّين مجموعة شعريّة بعنوان "هندسة الكلمات ومهندسون شعراء"، وقد حوت المجموعة قصائد لـعشرين مهندسًا شاعرًا.
ومن الـمحامين اللّبنانيّين الّذين اختطفهم الأدبُ أمين تقيّ الدّين (1937م)، وإميل جرجس لحّود (1954م)، وصلاح لبكيّ (1955م)، ويوسف السّودا (1969م)، وأمين نخلة (1976م)، وصباح اللّبابيديّ (1987م)، ونضيف إليهم الشّاعر السّوريّ نزار قباني (1998م)...
وهل ننسى الشّاعر السّوريّ أيضًا عمر أبو ريشة (1990م) الّذي قصد إنجلترا، ليدرس الكيمياء الصّناعيّة في جامعة مانشستر؟
وثـمّة من اختاروا مساراتٍ علميّة في الجامعة، ثمّ عدلوا عنها إلى المسار الأدبيّ، مثل الرّوائيّ إبراهيم عبد القادر المازنيّ (1949م)، فقد اختار الطّبّ، ثمّ تحوّل إلى الحقوق، ثمّ رسا به الأمر في مدرسة المعلّمين، وانطلق في عالَم الصّحافة والأدب. أمّا الشّاعر أيمن العتوم فدرس الهندسة المدنيّة، ثمّ حصل على إجازة في اللّغة العربيّة، ثمّ نال فيها الماجستير فالدّكتوراه. وفي زماننا المعاصر أمثلة كثيرة أخرى، ليس لي أن أسردها بكلّ تفاصيلها، لئلّا تظهر في سياق ترويج إعلاميّ لهؤلاء الأدباء الأفذاذ.
معنى هذا كلِّه أنّه ينبغي أن نطرد من أذهان المتعلّمين، وأولياء أمورهم، أنّ الاهتمام باللّغة لا يكون إلّا إذا كان في نيّة المتعلّم أن يتابع تخصّصه فيها، وإلّا فليس عليه إلّا أن يمرّ بها مرور الكرام. علينا أن نقنعهم أنّه ليس من العدل أن تكون هذه نظرتَنا إلى اللّغة، ثمّ علينا أن نبصّرهم أنّ أيّ طالبٍ قد يتخلّى عن تخصّصه الجامعيّ، أو يضمّ إليه ميلًا آخر، فيتعلّق بأهداب الإبداع الأدبيّ، ويتسلّق إلى أحضان الـنّجوم.
وهذه المعطَياتُ أيضًا تدفعنا إلى الإلحاح على القيّمين على المدارس والمعاهد والجامعات في كلّ بلادنا، أن يُقرّوا اللّغة العربيّة مادّة معرفيّة مركزيّة وازنة، يُعَدّ الـنّجاح فيها شرطًا للانتقال من عام دراسيّ إلى آخر، حتّى يدرك المتعلّم أهـمّـيّتها، وارتباطها بهويّته وقيمه وتراثه، ويحرص على قطف ثمارها بعناية، والـتّبصّر في معانيها العميقة، وآدابها الرّفيعة، وطاقاتها الإيحائيّة. ولا بدّ أن يرافق ذلك إعادة بعث الحياة في مناهج تدريس هذه اللّغة العظيمة، لتعود ذاتَ بساتينَ وأنهارٍ، وارفةَ الظّلّ، مُغدِقةَ الثِّمار. والجدير ذكره أنّ بلادًا عربيّة تقوم بهذا الإجراء في المدارس، وتعدُّ الطّالب راسبًا في الامتحانات الرّسـميّة إذا رسب في مادّة اللّغة العربيّة، ونجح في سائر الموادّ.
ونحنُ نرى أنّ كثيرًا من الجامعات العربيّة باتت تجعل اللّغة العربيّة مادّة إلزاميّة لكلّ طالب، أيًّا كان اختصاصُه، ويقتضي الأمر أن ينجح فيها أسوة بسائر الموادّ. فلتتكامَلِ المسيرة، ولتكن انطلاقتها الصّحيحة الجِدّيّة منذ المدارس، حتّى لا يكون المقرّر الدّراسيّ للّغة العربيّة في الجامعاتِ هزيلًا، يُفضي إلى ما يشبه التّرفيعَ الآليَّ التِّلقائيّ، وحتّى تتّسع دائرة الجامعات الّتي تتّخذ هذا القرار.
فلتتوحَّد جهود مدرّسي اللّغة العربيّة، لرفع الصّوت عاليًا، ومطالبة إدارات المدارس، ووزارات التّربية والـتّعليم والثّقافة، بإنصاف هذه اللّغة العريقة الّتي أعطتِ الدّنيا حُزَمًا من الـنُّور، وشنّفَت آذان العالَم بحروفها السّاحرة، ونثرت أريجها الدّفّاق في كلّ الآفاق. نعم، لا بدّ أن تعود اللّغة العربيّة إلى مركز الاستقطاب، وتكون أمّ المعارف، فمن حظي بكلّ المعارف ولم يحظَ بها، فهو يتيم. لا بدّ أن تَدخل إلى نسيج وجدان المدير في المؤسّسة الـتّربويّة، إلى البنية التّأسيسيّة لذهنيّته، قبل أن تدخل إلى أوراق المتعلّمين، وبطاقات علاماتهم.
والسّؤال الحاسم لن يكون: متى نبدأ؟ فثمّة سؤال مرير أَولى أن يتصدّر، وهو: لماذا لم نبدأ بعد؟
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة