على هامش “صفقة القرن”.. هل القرار في يد أمريكا وحدها؟!
قد تكون الإجابة على هذا السؤال من أشق الأمور بخلاف ظاهر القول؛ باعتبار أن الولايات المتحدة هي القوى الأعظم وفق ماصدق مصطلح الـ"Hyper Power" وليس حتى الـ"Super Power" في عالمنا اليوم.
فمن بين أهم القوانين التي رسَّختها كبار حوادث التاريخ في مجال العمران السياسي والاجتماعي، هي أن القوة المادية ليست عامل الحسم الوحيد للأمور، وربما تكون في مرتبة متأخرة خلف عوامل أخرى أكثر تأثيرًا، مثل التشبُّث بالقيمة، وإحساس الفرد والجماعة الإنسانية بالسمو والارتقاء على الخصم باعتبار أنها في جانب الحق والخير .
وفق هذا المنطلق؛ فإننا نقول بثقة كاملة: كلا؛ ليس الأمر، وليس القرار في يد الولايات المتحدة وحدها؛ حيث يخبرنا التاريخ أن مُدُنًا صغيرة محاصَرة، انتصرت على إمبراطوريات غاشمة غازية، وانتصرت عليها، مثلما فعلت ستالينجراد في الحرب العالمية الثانية، وبورسعيد في حرب السويس.
ولذلك؛ فإن أول ما ينبغي أن يتم السعي إليه في هذه المرحلة، هو ترسيخ هذه القناعة في صفوف الجمهور العام، في فلسطين، وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي، والتأكيد –كموقف سياسي– أن ما طرحه ترامب وما قبل به الكيان الصهيوني في مساء يوم الثلاثاء 28 يناير 2020م، كأنه لم يكن، وغير ملزِم لأي أحد.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هناك ملاحظة على أكبر قدر من الأهمية ينبغي الحديث عنها عندما نتكلم عن عنوان كبير بحجم "كيف نتصدى لصفقة القرن" التي صاغها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعقلية رجال الأعمال سليل الكاوبوي الذين استولوا على أراضي الآخرين في العالم الجديد بالقتل والمساومات والترحيل!
هذه الملاحظة تتلق بسلوك القيادات الفلسطينية، سواء قيادات سلطة الحكم الذاتي، أو قادة الفصائل الفلسطينية مما يجري في شأن فلسطين كقضية؛ حيث يبدو الجميع وكأنهم قد فوجئوا بما جرى، بينما لن نقول حتى إن إشاراته كانت واضحة منذ زمن؛ كلا؛ حيث كان محتوى صفقة ترامب مُعلنًا أصلاً ولا جديد فيه بالمعنى الحرفي للكلمة.
فأخطر ما جاء فيه، فيما يخص القدس واللاجئين وغور الأردن، هو سياسات معلنة من جانب الحكومة الصهيونية حتى من قبل نتنياهو، بل حتى من قبل عملية أوسلو؛ حيث هي ثوابت في المشروع الصهيوني في جوانبه الأمنية والسياسية.
فقضية أن القدس "عاصمة موحدة لدولة إسرائيل اليهودية"، وأنه "لا عودة للاجئين"، وأن غور الأردن هو "جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل" باعتباره أحد أهم أركان منظومة تأمين الكيان الصهيوني؛ كلها أصلاً أمور معروفة منذ نكبة فلسطين عام 1948م.
قضية أن القدس "عاصمة موحدة لدولة إسرائيل اليهودية"، وأنه "لا عودة للاجئين"، وأن غور الأردن هو "جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل" باعتباره أحد أهم أركان منظومة تأمين الكيان الصهيوني؛ كلها أصلاً أمور معروفة منذ نكبة فلسطين عام 1948م
لكننا نجد أنه في أعقاب كل حدث السيناريو العقيم الآتي: "تصريحات تهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور"، و"دعوات لاجتماعات مشتركة بين كل ألوان الطيف الفلسطيني"، ثم لا شيء في ظل موقف عربي بات معروفًا ولا يخفيه الحُكَّام العرب، ولا الإعلاميون الذين يرددون الخطاب الرسمي للحكومات والأنظمة، وهو أن الكيان الصهيوني لم يعُد عدوًّا، وأن إيران وجماعات "الإسلام السياسي" هي العدو.
في المقابل؛ فإن الحلول شديدة البساطة، حتى ولو كانت عواقبها وخيمة؛ حيث التعلل بأن العواقب وخيمة؛ إنما هو من هزل القول والمواقف، لأن الموقف الراهن لم يعد يبقي للفلسطينيين أصحاب الحق والشرعية، أي خيار آخر سوى المواجهة، وأنه من المفترض أن هذه حرب، وبالتالي؛ فإن الأساس والأصل هو بذل التضحيات، حتى بالأرواح والدماء.
ومن بين هذه الحلول التي لا يوجد أي تفسير قويم لتجاهلها لسنوات طويلة ثبت فيها أن خيار التسوية غير ذي بالٍ، وأنه مجرد إضاعة للوقت لتمكين الصهاينة وداعميهم من فرض حلول الأمر الواقع، إعلان السلطة الفلسطينية عن حل نفسها، وإعلان منظمة التحرير الفلسطينية نبذ اتفاقيات أوسلو وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني والتخلي عن أية التزامات قانونية أو سياسية فرضتها عملية أوسلو بالكامل.
كذلك هنا الخيار الذي أثبتت تجارب مقاومة تاريخية لكيانات استعمارية غاشمة، أنه الأجدى والأنجح، وهو خيار المقاومة الشعبية غير المؤطَّرة تنظيميًّا، يقوم بها جماعات وأفراد، بمختلف الأدوات، بما في ذلك القوة المسلحة. ففي الحالة الفلسطينية، وهي حالة مشروع استيطاني غاصب؛ فإن جانبًا من الحل، هو إحالة حياة المستوطنين اليهود إلى جحيم .
هنا تبرز مجددًا أهمية نبذ خيار أوسلو؛ حيث إن العائق الكبير أمام هذا البديل المهم والفعَّال، هو التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وبالتالي؛ فإن نسف أوسلو واتفاقياتها، مُكوِّن شديد الأهمية من مكونات خطة فلسطينية ينبغي وضعها موضع التنفيذ تستند إلى مبدأ أنها معركة انتهائية، لأنه لم يعد هناك أي شيء يمكن انتظاره أو الحديث عن أنه أهون من خوض معركة خاسرة.
إن نسف أوسلو واتفاقياتها، مُكوِّن شديد الأهمية من مكونات خطة فلسطينية ينبغي وضعها موضع التنفيذ تستند إلى مبدأ أنها معركة انتهائية، لأنه لم يعد هناك أي شيء يمكن انتظاره أو الحديث عن أنه أهون من خوض معركة خاسرة
فحتى بديل المعركة الخاسرة الآن، أجدى من الانتظار، لأن الانتظار وفق تسلسل الحوادث الحالي؛ يعني إعطاء شرعية من نوعٍ ما للإجراءات الأمريكية والصهيونية.
وهنا ينبغي أن نضع في الاعتبار بعض الأمور لأجل فهم جانب من أسباب ما وصلنا إليه في هذه المرحلة، ومنها أن خصومنا قد أغرقونا في أزمات داخلية، وربُّوا عملاء بين ظهرانينا أنهكونا حتى بتنا نقبل بأي شيء يعيد إلينا الاستقرار والأمان.
كما أننا ينبغي أن نضع إعلان ترامب/نتنياهو الأخير هذا في إطار من الفهم أنه لا الصهاينة ولا الأمريكيون سوف يلتزمون من الأصل بما تم طرحه، بل يجهِّزون لما هو أسوأ لأنهم يعلمون يقينًا أن الفلسطينيين لن يقبلوا بهذا، وبالتالي؛ سوف يظهرون للعالم أن الفلسطينيين هم مَن يرفضون السلام، ويرفضون التفاوض.
وفي الأصل؛ فإن الأمر دعايات انتخابية لكلٍّ من ترامب ونتنياهو، ومحاولة للهروب من أزمات داخلية يواجهها كلاهما، سواء في الملاحقات التي يواجهها نتنياهو بتهمٍ تتعلق بالفساد، أو محاولات العزل التي يجابهها ترامب .
ويؤكد ذلك أن موضوع "صفقة القرن" أو تصوُّر ترامب للتسوية في الشرق الأوسط، مطروح منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتم تأجيل طرحه أكثر من مرَّة بسبب مواقف بعض الحكومات العربية التي رأت في التصور الأصلي للصفقة الأمريكية، تهديدًا لأمنها القومي، مثل مصر والأردن –قال بذلك جاريد كوشنير صهر ترامب ومبعوثه الخاص للمنطقة– وبالتالي؛ فإن التوقيت ذو دلالة؛ حيث الإعلان جاء في توقيته كمخرج لترامب ونتنياهو من أزمات داخلية كبيرة.
وبالتالي؛ هناك هشاشة في الموقف الأمريكي الصهيوني في هذا الصدد، ويعمِّق من هذه الهشاشة أن صفقة ترامب تتجاوز قرارات الشرعية الدولية، وبالتالي فإن هناك أطرافًا وازنة في المجتمع الدولي لن تقبل بها، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وبالمقارنة مع قضايا أخرى مثل موضوع مقاطعة منتجات المستوطنات والشركات والجامعات الصهيونية العاملة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م؛ فإن الأمر يمكن مجابهته دبلوماسيًّا، لكن هذا لو أرادت السلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية المَيْتَتَيْن إكلينيكيًّا، التحرُّك.
وفي النهاية؛ قد يكون من المؤلم القول إنهم يتصرفون باعتبار أننا غير موجودين كعرب ومسلمين، وبالتالي؛ يجب أن نشعرهم بأننا موجودون. كيف؟!.. هذا ما كان ينبغي -للأسف الشديد- أن يتم بحثه منذ سنوات، ولكن لعل الوقت لم يفُت بعد.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن