عالم... بلا أخلاق
لـطالما كان البُعد الأخلاقي ولا يزال مقياس نهوض وسقوط الأمم ومؤشر صعود وانهيار الحضارات. فالأمة التي تنحدر فيها الأخلاق تفقد مشروعية وجودها مهما أخذت بأسباب المدنية.
يدل على ذلك واقع العرب في الجاهلية، حيث جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنظومة القيم عندهم قد انفرط عِقْدها... فكانت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة أن يؤسس لقواعد أخلاقية تحكم الجماعة الوليدة التي خرجت من رحم ذلك المجتمع، وهنا نفهم مقصد الرسول حين جعل "الأخلاق" عُنواناً لبعثته: "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق" رواه أحمد.
لقد بهر رسولنا الناس بما جاء به من أخلاق وهو الذي أثنى عليه خالقه جل وعلا بقوله: {وإنك لعلى خُلُق عظيم}، ففي كل ناحية من نواحي الحياة كان مبرِّزاً صلوات ربي وسلامه عليه؛ في سِلمه وحربه فارس الميدان؛ فقد أوصى رسولُ الله الجيش المتّجه إلى معركة مؤتة فقال: "اغْزُوا بِاسم الله فِي سبيل اللّهِ، قاتلوا منْ كفر بالله، اغزوا ولا تغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمْثُلُوا، ولا تقتلوا وليدًا، أو امْرأةً، ولا كبيرًا فانيًا، ولا مُنعزلاً بصومعة" رواه مسلم.
هي إذاً سلسلة من "اللاءات" التي أعطى بها الرسول صلى الله عليه وسلم لرسالة الإسلام بُعداً إنسانياً عزّ نظيره، وحقن بها دماءً أن تُسفَك بظلم، وبها حفظ كرامة الإنسان من أن تُهدر، وأظهر رُقي هذه الرسالة حين حيّد العناصر الضعيفة في المجتمع من أن يطالها أذى... وبهذه الأخلاق فتح الصحابة ومَن بعدهم البلاد فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فتفيأ الجميع من مسلمين وغيرهم ظلالَ عدله قروناً.
أما اليوم فلو تلمسنا في ثقافة المتحكمين المتغلِّبين، وفي بعض مَن يُقال عنهم "قادة الميدان"، أثراً واحداً من تلك الأخلاق لما وجدنا مثلها ولا حتى قريباً منها... إنما هي أبجديات تفرضها المصالح فقط.
ففي السياسة يسود خُلق النفاق والتكاذب والخداع والكيل بمكيالَيْن، وهذه الأخيرة قصتها مع الثورات العربية قصة؛ ومثالها: مَن كان يلقي الخطب العصماء عبر الفضائيات في ثوار بعض البلاد كي يَثبُتوا ليتخلصوا من حكم الطاغية، ها هو اليوم ينقلب فيدعو الثوار للانكفاء لأن طاغيتهم "رجل شريف"، ويصف ثورتهم بقوله: "هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي هزمناه عام 2006 لكنه يعود"... لماذا؟ لأن المصالح فوق اعتبارات القيم والدين والأخلاق.
والأخلاق في الميدان تُشيب الوِلدان: فمن "موقعة الجمل" في مصر... إلى "زنقة زنقة" في ليبيا... إلى "فاتكم القطار" في اليمن... إلى "مجزرة جسر الشغور" و"جريمة الطفل حمزة الخطيب" في سوريا، وغيرها وغيرها... فماذا نقول؟ ويا تُرى كم روحاً ينبغي أن تُزهق؟ وكم عائلة مطلوب أن تُشرّد؟ وكم ثكلى وكم أرملة وكم يتيماً وكم مكلوماً ومعوَّقاً ومشوَّهاً... ستُسفر عنهم الحرب حتى تتحرك الدماء في العروق ولا يعود الحس متبلِّداً ولا الإجرام مستحكماً في النفوس ولا الأطماع مستشرية... ويتنحى الرئيس؟
وفي الإعلام أبواق تقلب الحق باطلاً، ثم تزينه وتقدمه للناس على أنه الحقيقة المطلقة، فتُحيل رسائلُهم البلادَ جنات ينعم فيها المواطنون بالحرية والعدل والمساواة، والطاغية أباً رحيماً يحتوي شعبه في حضنه الواسع وقلبه الكبير... والضحية قاتل جلاّده، والثوارَ مسلحين مندسين شِرذمة قليلين للنظام غائظين عملاء حاقدين يخدمون أجندات خارجية، ويؤتى بأذناب النظام أو المأجورين أو المجبورين ليُفَبرك هذا الإعلام "المحايد" على ألسنتهم سيناريوهات رسالتها واحدة: نحن باقون وليذهب الشعب إلى الجحيم؛ هذا الشعب خائن العيش والملح، ناكرٌ للجميل، تجرأ وتطاول على أسياده منادياً بالحرية!!! تلك التي كانوا يخشَون أن يرَوها حتى في أحلامهم خوفاً من النظام، وكم أصاب الشاعر العراقي أحمد مطرحين وصف حال المواطن العربي إزاء مفهوم الحرية قائلاً:
أخبرنا أستاذي يوماً عن شيء يدعى الحرية... فسألت الأستاذ بلطفٍ أن يتكلم بالعربية!... ما هذا اللفظ وما تعني وأية شيء حرية؟!!... هل هي مصطلح يوناني عن بعض الحقب الزمنية؟!... أم أشياء نستوردها أو مصنوعات وطنية؟!... فأجاب معلِّمنا حزناً وانساب الدمع بعفوية... قد أنسَوكم كل التاريخ وكل القيم العُلوية... أسفي أن تَخْرج أجيالٌ لا تفهم معنى الحرية... لا تملك سيفاً أو قلماً لا تحمل فكراً وهُوية... وعلمت بموت مدرسنا في الزنزانات الفردية... ونذرتُ لئن أحياني الله وكانت في العمر بقية... لأجوب الأرض بأكملها بحثاً عن معنى الحرية...
أما عن الأخلاق فيمن يتزيَّون بأزياء العلماء فحدثوا عن سوئها ولا حرج، فلقد أَرَوْنا منهم العجب؛ هذا ينافق لهم، وثاني يعتبرهم "ولاة أمور" لا يجوز الخروج عليهم, أو حتى إنكار ظلمهم ومطالبتهم بحقوق شعوبهم!!! وثالث ينظِّر لسياستهم، ورابع يحقِّر الثوار ويجتهد في إجهاض الثورة... وهكذا، فما نفعهم علمهم إذ لم يفهموا قول الله: {ولا تَرْكَنوا إلى الذينَ ظَلَموا فتَمَسَّكُمُ النار...}! وما انتفعوا بقول رسوله [: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائر"! وما وَعَوا دروس التاريخ التي حكت لنا قصص علماء كانوا للدنيا شموساً اجتنبوا السلاطين كما يجتنبون الوباء، وباعوا الأمراء لأنه حُكم الله فيهم، وذُبحوا من الوريد إلى الوريد لأنهم قالوا كلمة الحق، وسُجنوا وعُذِّبوا لأنهم أبَوا أن يحوِّلوا الدين إلى "بازار فتاوى" بحسب أهواء الحكام أو ما يطلبه الجمهور...
إنها الفتن التي حدّثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ستكون فتنٌ تموج موج البحر يصير فيها الناس كالبهائم" أخرجه الحافظ ابن أبي شَيْبة، ولكن من رحمة الله بعباده أن جعل اللطف قرين البلاء... فثوار تونس طردوا طاغيتهم، وثوار مصر أزاحوا فِرعونهم، وثوار ليبيا "زَنَقوه" وعائلته في جحورهم يترنّحون، أما ثوار اليمن فقد ضربوه قبل أن يرحِّلوه، وعُقبى للباقين... هؤلاء الذين قضَوا زماناً في النعمة فارهين حتى ظنوا أنهم مخلدون، وكم في قصة يحيى بن خالد البرمكيوزير الخليفة هارون الرشيد من عبرة، حيث كان مآله وابنه جعفر بعد خيانتهما إلى السجن: فقال لأبيه يحيى وهما في القيود والحبس: يا أبتِ بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة، أصارَنا الدهرُ إلى القيود ولُبس الصوف والحبس! فقال له أبوه يحيى: يا بُنيَّ لعلها دعوةُ مظلوم! سَرَتْ بليلٍ غَفَلنا عنها! ولم يَغْفُل اللهُ عنها، ثم أنشد يقول:
رُبَّ قومٍ قد غَدَوْا في نَعْمةٍ زَمَناً والدهرُ رَيَّانٌ غَدَقْ
سَكَتَ الدهرُ زَمَاناً عنهمُ ثم أبكاهُمْ دَماً حِينَ نَطَقْ
فلو نظر الحكام إلى المآلات لجنّبوا أنفسهم لعنة شعوبهم ونقمتهم، ولطهروا أيديهم من دماء الأبرياء... ولكنه عمى البصيرة وانعدامُ الخُلُق والتجردُ من القيم التي بغيرها لا يبقى الإنسان إنساناً، وقد صدق ربنا إذ قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}l
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن