باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، صدرت له 7 كتب منها: رحلة الخلافة العباسية (3 مجلدات)، نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب، منهج الإسلام في بناء المجتمع، محيي الدين بيري ريس، التأمل
ذكرى رابعة.. والسلمية والمقاومة!
مع ذكرى رابعة تجدد الحديث مرة أخرى عن موضوع السلمية والمقـاومة.
إن مجرد تكرار السجال بعد سبع سنوات من المحرقة لهو دليل على استمرار الحيرة والتيه، كما أنه دليل على أن الدروس المهمة مهما كانت واضحة لا يمكن أن نتعلمها إذا لم يكن لدينا الاستعداد للتعلم!
كما قال تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية)
وكما قال تعالى (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلَّمَهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلا، ما كانوا ليؤمنوا)
وقد كان جديرا بمحرقة رابعة العظيمة، التي تمثل في الوجدان الإسلامي كله مثل ما تمثله 11 سبتمبر في وجدان الغرب والأمريكان، كان جديرا بها أن تطوي صفحة السلمية وتفتح صفحة البحث عن الحلول الأخرى أيا ما كانت!
وهل من دليل على انتهاء هذه الخرافة من أن صاحبها يُحاكم بتهمة الإرهاب، وحُكِم عليه بجملة من أحكام الإعدام؟!
وصاحبها هذا، أقصد الدكتور محمد بديع فك الله أسره، هو رأس أكبر جماعة إسلامية في الوقت الحاضر في عموم العالم العربي وربما الإسلامي، ولو كان الذي تحت يده من الشعبية والنفوذ تحت يد زعيم آخر لم يكن لينافسه على حكم مصر أحد! بل ولا حتى ليفكر في منافسته!
هذا الرجل الواسع الشعبية الذي تفديه نفوس مئات الآلاف -لو شاء- أُخِذ من بيته بغير خدش واحد أصاب آخذيه.. فهل رأى الزمان زعيما يقود مئات الآلاف من الناس -من ورائهم الملايين- يأخذه عدوه من عقر داره دون أن يُخدش بخدش؟!
وقبل أن تعمل العقول على استبطان النوايا، فها أنذا أستبق عمل هذه العقول "الذكية الألمعية" لأقول: غرض هذه السطور القادمة هو طي صفحة السلمية، لأنها بكل بساطة ووضوح وسيلة فاشلة لم تُحل قضية ولم تُرجع حقا ولم تحرك ساكنا ولم تُسَكِّن متحركا.
وليس معنى هذا هو التسويق أو التحريض على العنف، العنف الأعمى الذي تمثله حركات مثل داعش، فلا سلميتنا أقوى من الرصاص، ولا الرصاص أقوى من الصواريخ.. ولكن المطلوب هو ما يتضافر فيه العقل والساعد، السياسة والحرب، اللسان والسنان..
فلتهدأ عقول "الأذكياء" قليلا، وليعلموا أن حديث المقاومة في زمن الضعف والاستضعاف ليس حديث تهور ولا مجازفة ولا مغامرة، ولا هو خارج من نظر سطحي ولا هبَّة عاطفية.. لتهدأ عقولهم ولنتأمل قليلا..
إن المتأمل في تاريخ حركات المقاومة، أو ما تسميه العلوم الأمنية الغربية "التمرد"، سيجد أن الأمر على خلاف ما تسوقه لنا جماعة السلمية، من أنه لم يحدث أبدا أن انتصرت حركة على دولة.. وأن مواجهة كهذا هي مواجهة خاسرة حتما دون تفكير.
هذه النتيجة التي يبشرنا بها السلميون لم يقل بها أحد غيرهم، بل وهم أنفسهم لم يقولوها بناء على بحث واستقصاء، وفتِّش كيف شئت في أوراقهم ومقالاتهم ولقاءاتهم التلفازية، فلن تجد بعد ذلك شيئا إلا دعاوى تفتقر للدليل.
حسنا، فماذا يقول الآخرون؟.. هل لديكم أنتم أرقاما تقول بأن ثمة حركات انتصرت على دول؟!
جميل.. سنترك إجابة هذا السؤال لمن خاضوا هذا الملف وبحثوه..
وسيأتي على رأس أولئك المخابرات الأمريكية، صاحبة أوسع استقصاء لتاريخ حركات "التمرد" ونتائجها.. ففي دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد الصادر عام 2012؛ والذي ترجمه إلى العربية الأخ والصديق العزيز أحمد مولانا، نجد هذه الأرقام:
- - وقع ما لا يقل عن 130 تمرداً مسلحاً منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يزال هناك ما لا يقل عن أربع وعشرين تمرداً مستمراً حتى أواخر عام 2011
- - متوسط استمرار هذه التمردات أكثر من 21 عاماً.
- - انتهت 36% منها بانتصار المتمردين بعد متوسط زمني 10 سنوات
- - انتهت 36% بانتصار الحكومة بعد متوسط زمني 12 سنة
- - انتهت 28% بنتائج متباينة، لأن المتحاربين توصلوا إلى تسويات تطلبت من الجميع تنازلات مهمة. وبلغ متوسط استمرار التمردات في هذه الصورة قرابة 8 سنوات
وبهذا ترى أن أقوى مؤسسة في العالم في رصد واستقصاء وتحليل الموضوع خرجت بنتيجة تقول: احتمال انتصار "التمرد" على النظام يساوي احتمال انتصار النظام على "التمرد".. أو أن ينتهي الأمر إلى حلول وسط.
السؤال هنا: هل يستطيع أصحابنا السلميون أن يخبرونا بحركات سلمية بحتة، اقتصر عملها على المظاهرات والاعتصامات والكتابة والخطابة بدون دعم خارجي ولا انشقاق عسكري داخلي، استطاعت تغيير نظام ديكتاتوري؟!
من جهة أخرى، وقعت بالأمس أمامي ورقة استراتيجية كتبها عمر عاشور -باحث أمني معروف، خصوصا لمن يشاهد الجزيرة ولمن يتابع أعمال معهد الدوحة أو المركز العربي التابعين لعزمي بشارة- يوجز فيها طبيعة الأوراق التي قدمت لمؤتمر "من السلام إلى السلاح"، وهو مؤتمر عقده المركز العربي التابع لعزمي بشارة لكن أوراقه لم تصدر بعد في كتاب -على حد علمي- وذكرت هذه الورقة إحصاءات أخرى.. مختصرها كالآتي:
- - من بين 268 مجموعة مسلحة، مارست نشاطها بين 1986 - 2006:
- - 20 (أي 7%) مجموعة هزمت عسكريا.
- - 107 (أي 40%) جماعة جرى تفكيكيها بأعمال الشرطة والاستخبارات، وأغلب هذه المجموعات مجموعات صغيرة (أقل من 200 مسلح) أما المجموعات الأكبر (خصوصا ما يزيد عن 1000 مسلح) فقد تحولت إلى العمل السياسي والسلمي
- - 114 (أي 43%) جماعة التحقت بالعمل السياسي السلمي الدستوري كأحزاب سياسية أو جماعات سلمية مدنية.
أي أن أغلب هذه الحالات وصلت إلى الحلول الوسط، حيث تنازل النظام الحاكم وأعطى للحركة "المتمردة" من المزايا والضمانات ما طمأنها إلى إمكانية الوصول لأهدافها عبر العمل السياسي والاجتماعي المدني.
بينما انتصاره -أي النظام- الحاسم بالوسائل العسكرية كان نادرا.. وانتصاره بوسائل الاستخبارات والاختراق الأمني نجح في المجموعات الصغيرة وليس في الجماعات الكبرى.. والجماعات الكبرى هنا هي التي تشمل 1000 مقاتل فما فوق.
وأشارت نفس الورقة -أقصد ورقة عمر عاشور- إلى إحصائية أخرى مبنية على قواعد بيانات أصغر تقول: من أصل 133 جماعة مسلّحة حاربت ضد أنظمة شتى (بين 1990 - 2009) تحول 54.8% إلى أحزاب سياسية في نحو 50 بلدا.
رابط الورقة هنا
وهذه النتائج التي وصلت إليها الورقة الأخيرة تذكرنا مرة أخرى بنتائج بحث راند الذي كان بعنوان "كيف تنتهي الجماعات الإرهابية".. حيث كانت خلاصة النتائج على هذا النحو:
- - الحركات "الإرهابية" ينتهي أغلبها (43%) بالتسوية السياسية بينها وبين الحكومة حيث يجري احتواؤها ضمن عملية سياسية انتقالية.
- - ينتهي (40%) منها بالاختراق الأمني المخابراتي المعلوماتي الذي يؤدي إلى اكتشاف قياداتها ومفاصلها الرئيسية ومن ثم اغتيالها أو اعتقالها، وهو مجهود لا يصلح للقيام به الأجهزة الأجنبية بل يُلقى على عاتق الأجهزة المحلية الأكثر معرفة بالبيئة الداخلية.
- - ينتهي (10%) منها بتحقق أهدافها
- - ينتهي (7% فقط) بهزيمتها عسكريا.
وهذا ما يعطي التوصية بأن المكافحة العسكرية هي أقل الوسائل نجاحا في القضاء على المجموعات "الإرهابية"، فيما يتعاظم العمل حول "الإصلاح السياسي" ثم "العمل الأمني الاستخباري".
ولاحظ واضعو التقرير أيضا نتائج أخرى من أهمها:
- 1. أن التنظيمات الدينية هي الأطول عمرا.
- 2. أن التنظيمات الكبيرة أقدر على الصمود والبقاء والانتصار من التنظيمات الصغرى
- 3. التنظيمات التي اشتركت في "تمرد" لا تنتهي بسهولة.
وتلك النتائج الثلاثة الأخيرة نستخلص منها أمورا في غاية الأهمية والخطورة، وهي على الترتيب:
- 1. أهمية الدين وأنه أقوى وأرسخ من سائر الأيديولوجيات النضالية، فما من حركة كفاح إلا واعتنقت فكرة، ومع هذا فقد كانت الحركات الدينية أطول نفسا وأقوى صمودا.
- 2. أهيمة الإعداد وضرورته، فالحركة التي تستطيع أن تكتسب أفرادا أكثر تعبر عن قدرة استيعابية وتشغيلية، ومن ثم ينعكس هذا على نتائج المعركة.
- 3. القدرة على تثوير الناس والمجتمع والانضمام إلى لحظتهم الثورية يمثل انتقالة فارقة في تاريخ أي حركة.
رابط تقرير راند: هنا
رابط مقال متعلق بالتقرير: هنا
يمكن الوقوف طويلا مع كل هذه المصادر، وما فيها يستحق التأمل والدراسة، ولكن الغرض الأهم الذي من أجله كتبت هذه السطور هو أن انهزام حركة المـقا ومة ليست حتما محتوما وحقيقة كونية.. بل الواقع الأكثر حضورا عبر هذه الأرقام يشهد بوضوح أن الجماعات الكبرى المتجذرة شعبيا والتي تمتلك عقائد دينية قوية وعددا كبيرا من الكوادر والشباب تستعصي على الإنهاء والهزيمة.
والأرجح في ظل هذا الوضع أن تنجح الحركة الكبرى في هدفها أو أن تصل إلى حلول وسط تكون به جزءا من معادلة الحكم والسلطة.
وهي إذا لم تنجح ولم تصل إلى حلول وسط، فإن السبب الأكبر في هزيمتها ليست قوة الأنظمة العسكرية القتالية، بل قدراته الاستخبارية التي يتمكن بها من كشف خريطة الحركة ومعرفة مفاصلها وشخصياتها المؤثرة فيسدد ضربته كأنما يقوم بعملية جراحية دقيقة بواسطة المشرط (والتعبير لديفيد بتريوس: وهو من نجوم مكافحة "التمرد" وله دليل طويل وقد ترجمه أيضا أحمد مولانا على هذا الرابط)
بقيت كلمة أخيرة مؤلمة لا بد من قولها:
لقد اضطررنا في الاستدلال على ما نقول إلى أن نأتي به من أقوال الأمريكان والغربيين والباحثين المستشرقين -وإن كانوا عربا في الأصل- وما ذلك إلا لأن كلام هؤلاء أصدق عند كثيرين وأوقع في نفوسهم من لو أن قد جئنا بدلائلنا من القرآن أو السنة أو أقوال العلماء أو سير زعماء المسلمين في حركات التحرر الإسلامية..
فعسى أن يبلغنا الله زمانا نرى فيه أن أولى الكلام بالتصديق والتأثير هو كلامه وكلام نبيه وكلام عباده الصالحين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن