ماكرون في أزمة تاريخية
كتب بواسطة د. عبد الرحمن بشير
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1069 مشاهدة
تناول رئيس فرنسا في خطاب له عن الإسلام في فرنسا كلمة تحمل حقداً، وجهلاً من جانب، وتسويقاً لذاته في الانتخابات القادمة، وتضليلاً للرأي العام في فرنسا حيث يجعل الأزمة السياسية والفكرية والمالية التي تمر بها الدولة في فرنسا مسألة ثانوية، ذلك لأن مسألة الوجود الإسلامي في فرنسا يمثل خطورة وجودية في فرنسا في زعمه من جانب آخر، وهذا يؤكد أن فرنسا اليوم تعيش في أزمة ثقافية، وليس الإسلام كما قال رئيس ماكرون.
لقد خلط ماكرون ما بين الماء والملح بشكل غير منهجي في حديثه عن الإسلام، فتحدث عن وجود روح الانفصالية، وعدم قبول مبادئ الجمهورية، ورفض العلمانية، وتشكل مجتمع إسلامي في داخل فرنسا مما يهدد وجود الجمهورية في فرنسا كعقيدة سياسية، والعلمانية كمشروع فكري اختارته فرنسا، وصناعة جيوب في داخل الدولة الفرنسية، وأعلن بلا مواربة أن الإسلام ذاته يعيش في أزمة في كل مكان، ومن هنا خلط بين الحراك والأزمة، بل وخلط بين العقيدة والممارسة، وكل ذلك يتطلب من المثقفين المسلمين قراءة هادئة لفهم ما يجرى في فرنسا، هل ما قاله ماكرون مشروع انتخابي محض أم مشروع سياسي تريد من خلاله الدولة مواجهة الإسلام؟ وهل بمقدور فرنسا مواجهة الإسلام بكل أشكاله في فرنسا بالإقصاء والمواجهة الأمنية ؟ هل يمكن أمْننة مشروع المواجهة؟ هل بعض الدول في الخليج العربي التي تحارب الإسلام السياسي وراء المشروع؟ هل ثمة مخاوف حقيقية في فرنسا من تمدّد الإسلام؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب منا إلى فهم (النظام الجمهوري) في فرنسا، ذلك لأن فرنسا تحررت من الكنسية بقوة، وأعلنوا بوضوح أن دور الكنيسة انتهى، وقرروا بأنه يجب أن يشنق بأمعاء آخر قسيس بآخر الملك، ذلك لأن النظام الملكي الفاسد كان متحالفا بالكنيسة ضد الجماهير، ولهذا تم صناعة العقل الفرنسي بأن الدين مرحلة متخلفة، وأنه لا يمكن العودة إليه، وتمّ صناعة العلمانية كبديل عن الدين، بل العلمانية في فرنسا مقدسة كالدين، بينما العلمانية في الدول الأنجلوسوكسونية تمثل مشروع فكريا، وتحاول أن تقف من الأديان جميعاً بمسافة واحدة، بل ويرى أن العلمانية ليست بديلة عن الدين، بينما هي في فرنسا بديلا عن الدين، فالدين كان مقدسا لا يجب مناقشته، والعلمانية في فرنسا مقدسة، ولا يمكن مناقشتها بحال من الأحوال.
لقد تناول أحد المفكرين في الولايات المتحدة مرة مشروعاً سماه (نهاية التاريخ)، وكان يرى أن الليبرالية في نسختها الأمريكية هي نهاية التاريخ، فلا يمكن طرح مشروع آخر، هنا انتهت التجربة الفكرية والسياسية، ولكن الرجل تراجع، وعرف بأن التاريخ لا يمكن إنهاءه، بل الأصل في التاريخ هو الحراك والمدافعة، واليوم نلاحظ في فرنسا بأن النخب السياسية، ومن وراءهم النخب المثقفة بأن العلمانية الشاملة كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله هو الحل، بل هذا هو نهاية التاريخ، وهذا ليس صحيحا، بل الأصل هو أن المدافعة الفكرية والسياسية تتحدث اليوم عن أزمة العلمانية في نسختها الشمولية (فرنسا، وتركيا، وتونس) نموذجا.
لدينا قراءة استخباراتية تتحدث عن مستقبل الإسلام في فرنسا، وهذه القراءة تمنح المسلمين قوة وهمية حيث ترى القراءة بأن فرنسا تصبح دولة إسلامية في نهاية القرن، فهذه النظرة الإستخباراتية من شأنها صناعة الخوف في نفوس الفرنسيين، ويتم إشعارهم بأن الهوية الفرنسية في خطر أمام التمدد الإسلامي، ولكن هل هذا تمثل حقيقة، أم هو وهم يتم صناعته لأجل خلق أجواء فرنسية جديدة من خلالها يتم توحيد الفرنسيين لمواجهة عدو محتمل اسمه (الإسلام المتمدد) في داخل النسيج الفرنسي؟
إن هذه القراءة الإستخبارتية ليست فرنسية فقط، بل هي ظاهرة عالمية، تغذيها بعض الدول في الخليج بغباء سياسي، وسذاجة فكرية، وعنترية أمنية، ولكن هل يمكن مواجهة الحالة الإسلامية بعقلية أمنية في فرنسا؟ ليس ممكنا، لأن الحالة الإسلامية في فرنسا معقدة، وتحتاج إلى فهم الظاهرة بشكل هادئ، والتعامل معها بأسلوب منهجي، ولكن هذا أيضا ليس ممكنا في فرنسا لسببين، الخوف المصطنع ضد الإسلام، وتغذية بعض الدول المسلمة في أمْننة المواجهة، ولهذا نجد بأن خطاب ماكرون لم يكن خطابا متوازنا، بل كان خطابا منفعلا من جانب، ويخلط التيارات الإسلامية المختلفة، ويضعها في سلة واحدة من جانب آخر، بل وأعلن أن المشكلة في الإسلام، وليست التيارات فقط .
إن الإسلام لن يكون في يوم من الأيام مشروعاً كنسيّاً، ولن يصبح في يوم من الأيام مشروعاً سياسيّاً يمثل جهة معينة، ولكن الإسلام يملك أن يطرح أجوبة للأسئلة الكونية الكبرى، ويتجدد مع الزمان والمكان، وليس بمقدور الزمان تجاوزه، بل الإسلام كديانة استطاع أن يتحاور مع الحداثة، ولَم تستطع الحداثة تجاوز الإسلام كمشروع فكري، ومن قرأ كتاب (الإسلام بين الشرق والغرب) للمفكر الرئيس على عزت بيجوفيتش يرى قوة الإسلام في تحاوره مع الحداثة، ومن قرأ كتاب (وعود الإسلام) لروجيه جارودي يعرف بأن الإسلام من خلال الوحي، والفكر المنفعل مع الوحي يقدم أطروحة تنقذ البشرية من الأزمة الناتجة عن العلمانية المتطرفة، ومن هنا يمكن لنا أن نفهم، لماذا الخوف من الإسلام؟
إن المسلمين اليوم يعيشون في أزمة، وليس الإسلام، ذلك لأن من صنع الأزمة هو مجموعة من التحديات، وعلى رأس هذه التحديات الاستعمار وآثاره، والاستبداد الداعم من الغرب، وازدواجية المعايير الغربية، ووجود الظلم السياسي الدولي، وغياب الحريات، ورفض الإسلام الحضاري والسياسي حتى ولو جاء عن طريق الصناديق، ووجود طابور خامس في الأمة باسم الدين والذي يتحالف مع المستبد ضد الشعب، ويتم شرعنة الاستبداد من خلال نصوص دينية، كل ذلك يتحدث عن وجود أزمة لدى المسلمين، ولكن ومنذ أكثر من قرن يطرح المفكرون المسلمون أجوبة فقهية، وأطروحات فكرية، وكلها تستقى من الإسلام كمرجعية نهائية للأمة، وهذا ما فعله جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، ورشيد رضا، ومحد إقبال، والمودودي، وحسن البنّا، ومحد الغزالي، والترابي، وروجيه جارودي، وعلى عزت بيجوفيتش، وغيرهم، وهذا دليل واضح على أن الأزمة ليست في الدين، بل هي في الأمة.
تعيش فرنسا كدولة في أزمة أخلاقية حيث فشلت في صناعة المواطنة المتساوية البعيدة عن تذويب الأقليات في مشروع الأكثرية، فالحجاب ليس رمزاً دينياً حتى يصنع في فرنسا مخاوف مهددة للنظام العلماني، بل هو يمثل عقيدة وممارسة، وخيار اجتماعي، فكيف تخاف فرنسا، تلك الدولة العتيدة من فتاة تضع على رأسها خماراً تطبيقا للدين؟ أين المساواة ما بين الإنسان الفرنسي العلماني الذي اختار أن يلبس ما يشاء؟ والفتاة المسلمة التي تعيش في الدولة العلمانية واختارت أن تلبس ما تشاء؟ لماذا الخوف من محلات تجارية بسيطة تبيع اللحم الحلال؟ ولماذا الخوف من المساجد التي تجد زبونا بعكس الكنائس في فرنسا حيث تعيش أزمة جماهيرية؟ ولماذا الخوف من الإسلام السلمي الذي يعلن ولاءه لفرنسا كدولة، ومحبته للدين الإسلامي؟ وأين الانفصال في هذا؟
فشلت فرنسا في محاربة البطالة في صفوف الفرنسيين، وهناك حديث جدي في أن مستقبل فرنسا في خطر، وان أصحاب السترات الصفراء يمثلون تهديداً سياسيّاً مستقبليّاً، ولهذا يحاول بعض الساسة نقل المعركة من ميدانها الحقيقي إلى ميدان آخر، فالأزمة فرنسية، وليست إسلامية، ومن الذكاء السياسي التعامل مع الواقع السياسي بنوع من الحرفية كما فعل أردوغان، فهو لم يحارب تيارا بعينه، بل منح الجميع حقوقا متساوية مستفيدا من النظام العلماني ذاته، ولكن فرنسا العلماني تحاول أن تصنع ديانة جديدة، ويجب على الجميع الإيمان بها، ومن لم يُؤْمِن بتلك الديانة فلا محل له من الإعراب.
إن 8% من الفرنسيين لا يمكن إقصاؤهم من الحياة، وليس من الذكاء السياسي مواجهة هذه الأعداد الهائلة من المواطنين بعقلية أمنية، بل وليس من مصلحة فرنسا مواجهة المسلمين جميعاً، ومن هنا يجب على المثقفين الفرنسيين، وخاصة الذين يملكون روحا انفتاحيا مواجهة هذا الظلم بالقلم والفكر، وليس من العقل نقل معارك الشرق الأوسط إلى الغرب بلا خطط سياسية، بل ومن الذكاء السياسي الاستفادة من تجربة دولة كندا حيث يمنح الدستور الكندي المواطنين في كندا المساواة أمام القانون، ويقبل التعدد الفكري والديني والمذهبي مع مراعاة الخصوصية الكندية، ولهذا فلا تجد في كندا تطرفا دينيا، ولا تعنتا علمانيا، بل الجميع يشعر بأن الدولة لهم جميعا.
لم يكن ماكرون ناجحاً في خطابه، ولَم يكن خطابه متوازناً، بل خلق شرخاً اجتماعيّاً، وصنع عداوات فكرية في داخل المجتمع الفرنسي، ومال سياسيا إلى بعض الأجهزة الإستخباراتية التي تصنع الخوف، وترى الإسلام تهديداً وجودياً وحضارياً لفرنسا والغرب، كما أنه أراد أن يستفيد من حالة المسلمين المتردية في هذه اللحظة حيث تلعب بعض الدول في الخليج دورا فعالا في محاربة الإسلام في الغرب، ومن هنا نرى بأن الفكر يجب مواجهته بالفكر، ولكن مواجهة الفكر بالمشروع الأمني يصنع في الغرب شرقاً أوسطيا جديدا.
نحن اليوم نعيش لحظة صعبة، ولكن هذه اللحظة الصعبة تمثل تحديّاً فكريا وسياسيا، ولهذا يجب أن تكون الاستجابة على قدر التحديات، والمستقبل صناعة الألم والأمل، فالألم اليوم هو الخوف من الإسلام، والأمل هو تقديم أطروحة الإسلام الشاملة، وهكذا كان التاريخ، وهكذا سيكون المستقبل، فلا مكان لمن يتوارى من الصراع، ولكن يجب أن نعلن بأن الإسلام العنيف لا محل له في الحياة، وأن محاربة الإسلام باسم العنف أيضا ليس ذكاء سياسيا، بل الخلط بينهما هروب إلى الأمام، وليس بحثا عن الحلول الحقيقية.
ليس من الصواب خلط الواقع بالتاريخ، وليس من الحقيقة خلط الدين بالممارسة، وليس من الذكاء السياسي الهروب من المشاكل الواقعية لصناعة مشاكل وهمية، وليس من الفطنة السياسية البحث عن المستقل السياسي من خلال الوحل الاجتماعي، وليس من المصلحة صناعة حروب أهلية في دول عظيمة لها ثقل عالمية.
وأخيراً، وليس آخرا، ليس من المصلحة العالمية الحديث عن صدام الحضارات، والحروب الدينية في عالم هش في بنيته الاجتماعية، فالحديث عن الحوار الحضاري، والبحث عن مشتركات عالمية هو الحل، وليس غيره، لو كان ماكرون كسياسي وغيره من الفرنسيين يعقلون.
المصدر : صحيفة الأمة الإلكترونية
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن