الصَوم والتربية الرُوحية
لقد شرع الله سبحانه العبادات إصلاحاً للنفس البشرية وتقويماً لسلوكها، ومن تلك العبادات ركن عظيم من أركان الإسلام هو: صوم رمضان.
يتميز هذا الركن عن أقرانه بكونه تركاً- إذ هو إمساك- في حين أن الأربعة أفعال وإن كان ترك أضدادها مقصوداً منها فيتجلى فيها الصبر والجلد.
وإن الصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم:"الصوم نصف الصبر" (1) وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم:"الصبر نصف الإيمان" (2) (3)، ولذا أسند إلى الصبر (الضياء) في الحديث، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ) في "جامع العلوم والحكم" عند شرحه حديث:"الطهور شطر الإيمان... والصبر ضياء" الذي رواه مسلم:(وأما الصبر فإنه ضياء، والضياء هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق. والصبر المحمود أنواع:
1-منه صبر على طاعة الله عزّ وجلّ.
2-ومنه صبر عن معاصي الله عزّ وجلّ.
3-ومنه صبر على أقدار الله عزّ وجلّ.
ومن أفضل أنواع الصبر: الصيام، فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة) ا.هـ. وهذا معنى كون النهي أشدّ من الأمر، قال الحافظ ابن رجب أيضاً في الكتاب نفسه: 1/252 عند شرحه حديث:"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" المتفق عليه:(قال بعض العلماء: هذا يؤخذ منه أن النهي أشدّ من الأمر، لأن النَهي لم يرخَص في ارتكاب شيء منه، والأمر قيّد بحسب الاستطاعة، وروي هذا عن الإمام أحمد. ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البرّ يعملها البرّ والفاجر، وأما المعاصي فلا يتركها إلا صدّيق)- قال محقِقا الكتاب: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم الباجس: رواه من قول سهل بن عبد الله التُستري أبو نعيم في الحلية.ا.هـ). وكذلك فإن درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.
ولما كان الصيام تربية، وهي لا تتأتّى وتنال إلا شيئاً فشيئاً- إذ تختلف وتتفاوت ابتداءً وانتهاءً منشأً ومآلاً كما هو مدرك بالمشاهدة- كان لا بدّ أن تتعدد مراتبه، وقد بيّنها الإمام الغزالي رحمه الله (ت 505هـ) في الإحياء 1/277 في فصل "أسرار الصوم وشروطه الباطنة" فقال:
اعلم أن الصوم ثلاث درجات:
1-صوم العموم: هو كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
2-صوم الخصوص: وهو صوم الصالحين، وتمامه بستة أمور: الأول: غضّ البصر، الثاني: حفظ اللسان. الثالث: كفّ السمع. الرابع: كفّ بقية الجوارح عن الآثام، وكفّ البطن عن الشبهات. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار. السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أم يردّ عليه فهو من الممقوتين.
3-صوم خصوص الخصوص: صوم القلب عن سوى الله عزّ وجلّ والفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا. وهذه رتبة الأنبياء والصِدّيقين والمقرّبين).
فالصوم يرقى إلى أن ينتهي بصاحبه إلى الجنة من باب الريان.
وللصوم حكم متعددة ظاهرة وباطنة ومقاصد مختلفة:
وفي الصوم سرٌ لو تراءى لناظر لخرَ لدى المحراب للربّ ساجداً
قال الإمام الغزاليّ في الإحياء 1/277:(معلوم أن مقصود الصوم: الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى، فروح الصوم وسرُه تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، والاقتداء بالملائكة في الكفِ عن الشهوات بحسب الإمكان... فإن الشبيه من القريب قريب).
وقال تاج الدين ابن عطاء الله السكندري رحمه الله:"اخرج من أوصاف بشريّتك... لتكون لنداء الحق مجيباً، ومن حضرته قريباً". وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري (ت 546هـ) في كتابه "محاسن الإسلام وشرائع الإسلام": ص 19-22:(محاسن الصوم: ترك ما يدعو إليه الطبع... مهما خلا البطن عن اللُقم امتلأ من الحكم... فإذا
شبع بطنه جاع عينه ولسانه ويده وفرجه؛ فكان في تشبيع النفس تجويعها وفي تجويعها تشبيعها... فكان في الصوم سدّ باب الآفات... فكان الصوم محموداً طبعاً ومأموراً به شرعاً). وقال أمير الشعراء أحمد شوقي في كتابه "أسواق الذهب" [ص 89،62]:(الصوم حرمانٌ مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة ويحضّ على الصدقة، يكسر الكبر، ويعلِم الصبر، ويسنُ خلال البرّ، حتى إذا جاع من ألف الشِبع، وحرم المترف أسباب المتع، عرف الحرمان كيف يقع، والجوع كيف ألمه إذا لذع... بعض الصبر تجلّد وثمَ الحزم والرِضى، وبعضٌ تبلّد وهذا العجز الاستخذاء).
وكما أن الصوم توحُدٌ بمظهر التَرك- وهو يشبه ما في العهد المكي من تفريغ القلوب من العقائد الفاسدة كالشِرك- ففي العيد توحُدّ بمظهر الفعل حيث إظهار الفرح والبهجة والسرور- وهو يشبه ما في العهد المدني من ازدياد التكاليف بعد التهيؤ بترك ما يناقضها من العقائد الفاسدة-.
وإن كنا في معرض الكلام على الصوم فلا بأس أن نعرّج على الكلام على العيد إذ بينه وبين الصَوم معان مشتركة وأخرى تخرَج وتفرَع عليها. وفي ذلك يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابه "وحي القلم" 1/34:
المعنى السياسي في العيد
ما أشدّ حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهماً جديداً، نتلقاها به، تنبّه فينا أوصافها القوية، وتجدد نفوسنا بمعانيها، فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقَون هذا اليوم، وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة، وكانت عبادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة، له مظهر المنفعة وليس له معناها، وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة!
ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير.
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجِه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت، فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتخرّج عليها الأمثلة.ا.هـ.
وفي الختام: يكفينا قول الله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾[البقرة:183].
1)قال العراقيّ في المغني:(أخرجه التِرمذي وحسّنه).2)قال العراقيّ في المغني:(أخرجه الخطيب في "التاريخ" بسند حسن).3)إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: 1/273.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن