عرفة.. شرفُ الزمان
إنّ الحِقبة التاريخية التي نعيشُها اليوم تكاد تكون بِدْعاً من الزمان، فلم يَسبِق أن جفّت ينابيعُ الرحمة بين الناس مثل جفافها هذه الأيام، ولم يُعهَد أن اقتُرفت جرائم قتلٍ شديدة البشاعة كالتي نسمع بها هذه الأيام، ولم يَشهَد التاريخ أن كثُرتْ المِحن وتعاظمَ البلاء وغلَتْ الأسعار كما هو الحال هذه الأيام.
وإنّ الحديث تشخيصاً وتنظيراً يطول، لذا لا بدّ أن نتوثّبَ للقفزة من الجانب الذي نئنُّ فيه تحت وطأة الهموم والأحزان، إلى جانب النجاة والفوز.
وقد قالوا في المثل: "الغريق يتعلق بقِشة" أفرأيت مَن مُدّ إليه ــ وهو يعاني الغرق – حبلُ نجاة بدلاً من القشة، فبديهيٌّ أن يتمسك به لينقذَ نفسه، ومستهجنٌ أن يتركَه فيهلَك!
أما دواعي الغرق؛ فالواقع الذي نعيشُه من ظلمٍ فظيعٍ ومنكراتٍ قذرةٍ وتدنٍّ لمستوى المعيشة، ومن فساد المسؤولين ومن احتكار التجار، ومن الشرود بعيدًا عن باب المولى عزّ وجل؛ شرُّ نذير.
وأما الحبل الممتد إلينا؛ إنما هو "العشْرُ الأول من ذي الحجة" وخاصة " يوم عرفة".
فهو ملاذٌ مؤنسٌ لمن أثقلت كاهلَه الهموم، ولمن ابتُليَ هو أو أحدٌ من أهلِه بالمرض، ولمن يصارعُ من أجل أن يُنفِقَ على أهله، ولمن يعيش الظلمةَ لنُدرة وجود الكهرباء، ولمن يَنتظرُ في طوابير الأفران ومحطّات الوَقود.
- يوم عرفة؛ زمنٌ يدعو إلى الفرار إلى اللّه تعالى بقلبٍ واجف ودعاء خاشع، ولسانِ مَن آبَ إلى ربِّه بعد إسراف وشرود فقال:
فإنْ عذَّبتني فبِسُوءِ فِعلي/ وإن تغفرْ فأنتَ به جديرُ
أفرُّ إليكَ منكَ وأين إلَّا / إليكَ يفرُ منكَ المستجيرُ
- زمنٌ شريف، يجدرُ أن تُغتنمَ فُرَصُه التي قد لا تتكرر، فلا تمرُّ إلا ونحن صائمون منكسرون على أعتاب باب الكريم الجَواد، فقد روى مسلم وغيره أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة، فقال: " إنّي أحتسبُ على الله أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه، والسَّنةَ التي بعدَه"
- زمنٌ ينبئك بأنّ " الله أكبر" كلمةٌ كانت ترتعدُ منها فرائصُ الأعداء، وتتجندل في ساحة المعارك أجسامُهم، ولازالت هي هي؛ تحمل في طيّاتها معنى قوتها، لكن تحتاج من قائلها أن يحملَ في قلبه الثقة المطلقة بعَظَمة الله تعالى وافتقار كلِّ مَن سواه، ويستشعر بها حجمَ الخسارة التي تُمنى بها النفس عندما تستكينُ لكسل الهمّ والغمّ، وحجم الربح الذي تظفرُ به عندما توقِن بحقيقة " اللّه أكبر"
إنّ الزمن _ أيها الناس_ لا يُحسب بأيامه وسِنيه، بل بالفرُص التي تُغتنمُ فيه، ومن الغَبْن أن يمرَّ عرفة كما تمر الأيام العادية، وإن نال الحجيجُ شرفَ مكانِه، فإن الفرصةَ مواتيةٌ لمَن تعذّر عليه الحجُّ لأنْ ينال شرفَ زمانه.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة