متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
عسى أن تكون كلّ أيّامنا أعيادًا..
تعدّدت الأعياد والمناسبات، وتنوّعت عبر التّاريخ في حياة النّاس. منها ما يعيشه الملوك والزّعماء من تنصيب على العرش أو على كرسيّ الرّئاسة، ومنها ما هو طبيعيّ كعيد الشّجرة وغيره كثير... وابتُدِعت المناسبات والاحتفالات اليوم حتّى صعب إحصاؤها.
منها ما ارتبط بمصالح آنيّة؛ قد تفتح للبعض أبواب الاستغناء الفاحش على حساب كثرة تُستَدرج لإنفاق أموالها في الاحتفالات الطّائلة، و تُغرِق البعض الآخر في لهو ومجون فتنأى بهم عن الجدّ وما ينفعهم في حياتهم..
فماذا عن أعياد الإسلام؟
أقرّ الإسلام، دين الفطرة، ظاهرة الاحتفال المتجذّرة في نفوس البشر، إلّا أنّه نزّهها عن أن ترتبط بتمجيد الأشخاص، أو أن تنحصر في مناسبات دنيويّة صرفة، قد تؤول إلى مسلك لفئة بغية استغلالِ أخرى. وسنّ لنا أعيادًا تشيع الفرح في كلّ بيت، تُجدّد أواصر الحبّ بين الأهل والأصدقاء. يُشرِك العيد، في وقت واحد، أعدادًا لا حصر لها شرقا وغربًا جنوبًا و شمالًا، في البهجة..
هو فسحة لتقوية الرّوابط بين أفراد الأمّة مهما اختلفت أوطانهم و لغاتهم، وأقوامهم.
ربط اللّه الأعياد بشعائر هي أركان في عقيدتنا
يعود العيد كلّ عام فيتكرّر معه السّرور والإحسان بعودته. هو جائزة تأتي بعد بذل جهد ومشقّة، عبادة صوم أو مناسبة الحجّ. عن أنس رضي اللّه عنه قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم المدينة لهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة، فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: "إنّ الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما؛ يوم الأضحى يوم الفطر" (سنن أبي داود ). هما راحة يعيش فيها المسلمون البِشْر بخلوّهم من الذّنوب بعد أداء الفرائض، مبتهجين بإكمال عبادة أكرمهم اللّه بتيسيرها، شاعرين بتبديل سيّئاتهم حسنات.
عيد الفطر يأتي عقب فريضة الصّوم، إثر انتصار الفرد على الشّهوات والفلاح في التّغلّب على النّزوات والمغريات. هو عيد من أدّى زكاة الفطر وأفشى السّلام وأطعم الطّعام ورحم المحتاج..
وعيد الأضحى يوم مبارك، هو ذكرى للمثل الأوّل في التّضحية، سيّدنا إبراهيم عليه السّلام الّذي اشتاق إلى الولد فدعا ربّه، فوُهِبه على الكبر وتعلّق به. مع ذلك لم يتردّد لحظة واحدة، لا هو ولا ابنه إسماعيل في الإقبال على تنفيذ أمر ذبح الأب لابنه.. و سارعا بيقين إلى طاعة أمر الرّحمن..
تُنحر في هذا اليوم الأضاحي، هذا اليوم الّذي يأتي في أعقاب أداء الرّكن الأعظم من مناسك الحجّ وهو الوقوف بعرفة.
وقد سنّ الله لنا كيفيّة احتفال متناسقة مع ما يفرزه رضا النّفس بتحقيق التّضحية والثّبات على الطّاعة، مظاهر جميلة لنعيشها يوم العيد؛ من ذلك إحياء ليلة العيد بالذّكر وشكر الخالق، الغسل يوم العيد والتّطيّب ولبس الجديد والنّظيف، وأداء صلاة العيد جماعة، وإظهار الفرح، وزيارة الأهل والأصدقاء، والاشتراك في الطّعام مع الأحبّة محتاج وميسور حال، قريب وبعيد، و تقديم الهدايا والعطايا.
فالعيد عيد من خاف ربّه وانتهى عن المظالم، وأحسن العمل، وليس العيد لمن سرق ولا لمن خان وظلم غيره وأفسد، ولا لمن احتفظ بسواد في قلبه لأخيه، ولا لمن استولت عليه اللّذّات ففسق وفجر وعصى وأنفق ماله في العصيان وحرمه الفقراء والمحتاجين..
أفرغت اليوم عباداتنا وأعمالنا وأغلب مبادئنا من روحها لجهل فينا، فانحرفنا عن الفهم العميق والصّحيح، وما عادت المظاهر الّتي نعيشها متناغمة مع القصد الّذي أراده لنا خالقنا.
غاب هذا الفهم البيّن حتّى تجرّأ أحدهم ونادى بتعطيل فريضة الحجّ وإنفاق المال المخصّص لأدائها على المحتاجين، غاب عنه أنّ الحجّ ليس مجرّد مشروع مادّيّ صرف.. الأولى أن يُنادَى بتسخير الأموال الطّائلة الّتي تنفق اليوم في العالم وفي بلادنا في الاحتفالات المتنوّعة الّتي لا فائدة من ورائها، لفائدة المحتاج.. جهل هذا أنّ الحجّ مدرسة تربويّة تذكّر بتحمّل أمانة شكر الله أوّلًا، فما الحجّ إلّا تلبية لدعوة الخالق المُنعِم، وأمانة العدل مع الإنسان ذاته والقيام بالواجب تجاه ذوي الاحتياجات الماليّة والضّعيف عموما، ثانيًا. وتدرّب على تحمّل المشاقّ والتّضحية بالمال والرّاحة ومفارقة الأهل والبعد عن الأصحاب..
وتُعلّم ضبط النّفس والتّحلّي بالخلق الحسن، وتذكّرنا بالموت الّذي هو جسر يوصل إلى الحياة الحقّة الدّائمة.. وبأيّ حال من الأحوال ليس لأحد أن يُعطّل فريضة فرضها اللّه بحجّة وجود الفقر على وجه الأرض، أو لأيّ سبب آخر ..
وقد فقه السّلف، وهم قدوتنا، أنّ العيد عيد من قُبِل صومه، و شُكِر سعيه، وغُفِر ذنبه..
واشتهرت عن بعضهم مقولة: اليوم لنا عيد، و غدًا لنا عيد، و كلّ يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد.
أعيادنا شحنات روحيّة راقية تُتوِّج جهدا بذلناه. و في ذات الوقت، هي ثمرة إنتاج مُرْضٍ للّه، نتزوّد به فيكون لنا مددا لسائر أيّام السّنة، عسى أن تكون كلّ أيّامنا أعيادًا.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة