أ. عائشة عبد الله عزازي، بكالوريوس في اللغة الإنكليزية. مديرة تنفيذية لمركز تدريبي في الرياض.
ليلة القدر الأخيرة
احتارَ قلمي كيفَ أبدأُ الحكاية، ففي قلبي الكثيرُ مِنَ الشوقِ والحنينِ لحضارةِ أجدادي، فإن كانت بعيدة بالزمان والمكان فهي حاضرةٌ في العقلِ والوجدانِ.
تنتابُني لذكراها مشاعر مختلطة ما بين الفخرِ والاعتزازِ، وما بين الحسرةِ والألمِ.
فهي ما زالت جرحًا نازفًا ينخرُ في خاصرتِنا على مدارِ الأيام.
فمنذ ثمانِمئة عام تهللت وجوه المسلمينَ فرحًا وسرورًا لهذا الفتحِ المبين، يوم تَغلّبَ الهلالُ على الصليب، وارتفع صوت الأذان في أرجاء أسبانيا (الأندلس)، فانتشرَ العدل، واجتمعت أصنافٌ من البشر على اختلاف ديانتهم وثقافتهم وألوانهم تحت رايةِ التوحيد، متساوين في كل شيء، فلهم الحرية في معتقداتهم الدينية_ سواء كانت يهودية أو نصرانية أو غيرها_ فقد كانوا يمارسون طقوسهم الدينية ويحتفلون بأعيادهم دون محاسبة أو مراقبة، بل تعامل باطنه الرحمة وظاهره الرفق والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع الأندلسي، فنشأت حضارةٌ عريقة راقيةٌ ذات تمازج فريد من نوعه، ومن خلال هذا التوافق الديني كانت الدولة_ والتي تحملُ رايةَ التوحيد_ تعتني بالأعياد والمناسبات، ومنها التحضير لشهر رمضان الفضيل، شهر الرحمة والغفران، فتستقبله بحفاوةٍ بالغة، وترصد دولة الخلافة الكثير من أموال الخزينة لأجل استقبال الشهر العظيم، فتعقد الاجتماعات لأجل إعداد موائد الرحمن ومساعدة الفقراء، وإطعام طلاب العلم ممن كانوا يدرسون في جامعة قرطبة، ويزيّنون المساجد بأجمل الحُلل لأجل صلاة التراويح والقيام، ويطيبونها بالمسكِ، ويضيئون المصابيح، ويجهزون الحلوى والأطعمة الرمضانية كشراب قمر الدين وغيره.
فلرمضان قدسيةٌ مهيبة ومكانة عظيمة ليست في نفوس الولاة والمسلمين فقط، بل لدى الطوائف الأخرى؛ لأنهم كانوا يعيشون جميعا في تعايشٍ دينيّ امتاز بالسماحة والسلام.
وبقيت الأندلسُ شامخةً على مر العصور، بأصالتها الإسلامية العربية، وقد غدت صرحًا علميًّا عظيمًا يغدو إليه الطلاب من أقاصي الأرض ومغاربها، وتغنى بها الشعراء في كل المحافلِ، ومع مرورِ السنوات أصابَ الوهنُ أركانَ الدولةِ، وعمَّ الفسادُ وانتشرت الفتن الداخلية بين الحكام والولاة، وأشغلتهم الدنيا بمفاتنها، فأصبحت الأندلس فريسةً سَهُلَ اصطيادها من قبل المتربصين الذين كانوا ينتهزون أي فرصة لمهاجمة الثغور.
ولشدة حقدهم انتهزوا انشغال المسلمين بصوم رمضان، وصلاة التراويح، فهاجموهم من كل حدب وصوب؛ فتصدى لهم المسلمون وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ بلادهم، واللوذ عن مساجدهم ومدنهم وقصورهم، وإلى هنا بعد الحُطام ودّعَت الأندلس المكان، وحلّت نسائمُ الأحزان في ليلة القَدرِ الأخيرة، وسلاماً سلامًا يا بدر الهلال!
سوف تشتاقُ إليك الأركان، لن أبكي أو أغني، بل سوف أقول إلى لقاء قريب بإذن الرحمن، إلى لقاءٍ أندلسيٍ يبعث فينا ما أقبره الزمان.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!