في ظلال يوم العمل... مواقف وعبر!
أيَّامٌ معدودات ويطلُّ على عالَمِنا يومٌ أطلقوا عليه يومَ العمّال أو عيدَهم. وقد أَخَذَ هذا اليومٌ في مدى تاريخ إطلاقه الطويل صُوَرَ شتَّى مختلف النظر إليه أو تقديره، وأَخْذ العبر منه سلبًا وإيجابًا. ويُمْكِنُ جَمْعُ هذه الصُّور في مشهدين اثنين وبينهما حُكْم ثالث. فأمّا أصحاب المشهد الأول فهم أتباع النظام الرأسمالي الذي حَكَمَ وما زال حُكْمُه يمتدُّ على أكثر بقاع الأرض، وفي مُقَدَّمِها أميركا وأوروبا في غالبها. وهذا النظام الذي يقوم على تسلِّط أصحاب الرساميل من الأغنياء المترفين على الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب في تلك البلدان. ونَتَجَ عن هذا التوحُّش المالي في بداية القرن العشرين ما أدَّى إلى ثوراتٍ عمّاليةٍ تطالب بالعدالة والتوزيع العادل للمال، وعدم حَصْرِه في أيْدٍ قليلةٍ احتَكَرَتْه لجماعة قريبة منها على حساب الآخرين المغلوبين. وقد أتاح هذا الظلم المُسْتَفْحِلُ الفرصةَ لظهور نظام مقابل هو نقيض هذا النظام الرأسمالي. وكان هذا النظام هو المسمَّى "اشتراكيَّة"، وذروة سنامِه "الشيوعيَّة". ولمّا كانت الرأسمالية قد احتاجت إلى ما يقابلها في الضدِّ ليس كرها لها ولا بغضًا فيها، ذلك أنّ صنّاعها وملوك رؤوس المال فيها هم أنفسهم من أتاحوا الفرصة لظهور الفكر الشيوعيِّ وتمهيد الطرق الملتوية لوصول أتباعه للحكم في روسيا، قَصَدْتُ بهم اليهود الذين كانت لهم اليد الطولى في نشر فكر ماركس اليهودي الأصل باعترافاتهم المكتوبة في كتبهم كما نشروا مثله فكر داروين وغيره من أفكار التدمير الأخلاقي والإنساني. ونتج عن ذلك الصراع المزعوم بين الفقراء والأغنياء قيام ثورة تحمل هموم العمّال والفلّاحين وتحكم باسمهم. بقيت الدكتاتوريات نفسها ولكنّها انتقلت من اسم إلى اسم. فهل حقَّقت الثورةُ المضادَّةُ للرأسمالية مصّاصة دماء الفقراء والأُجَراء من العمّال حقوقَهم المسلوبة؟
إنّ الذي جرى عكس ذلك تمامًا. لقد تكوَّنت طبقة جديدة تُتاجِر في حكمها ونظامها باسم من قامت لأجلهم. ولم يطل أَمَدُ حُكْمِها لأكثر من سبعين عامًا. فانهارت كمثل أوراق الشجر في الخريف. واستمرَّت الرأسماليَّة المتوحِّشةُ في غَرْزِ أنيابها القاتلة في أجساد المستضعفين من أهل الأرض تأكل خيراتهم وتستغلُّ قوَّةَ شبابِهم لأجل حفنة من أصحابها الأغنياء المُوْسِرين الذين جمعوا ثرواتهم الخياليَّة من كدِّ وتعبِ وعَرَقِ الملايين المحرومين في الأرض. ولم تجد تلك الرأسمالية الظالمة مُتَنَفَّسًا لمن ظَلَمَتْهم وأكلت جنْيَ أعمارهم بديلًا لهم سوى بإعلان اليوم العالميِّ للعمّال، حيث ترتفع الشعارات البرّاقة التي لم يتحقَّقْ من خلفها سوى نقابات العمال التي لا يطال من قامت لأجْلِهم إلّا الفُتات. وبقي العالم كلُّه في حيرة من أمره، لا لأنّه لم يجد البديل، بل لأنّه لا يبحث عنه. وذلك موجود في نظام الإسلام دين الله الحقِّ الذي قام على العدل في كلِّ شيء. ألم يقل ربُّنا سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ﴾. وهل يتَّفِقُ ذلك الحقُّ بظُلْمِ أهْلِ الأرض لبعضِهم البعض. وأن يأكلَ القويُّ الضَّعيفَ والغنيَّ والفقيرَ. إنّ ذلك يخالف سُنَنَ الله في أرضه وتحت سمائه. ولقد وضعُ الله ميزانًا للعدل أَمَرَ الناسَ أن يقومَ عملُهم على أساسٍ منه. وأنّه بمجرَّد أنْ رَفَعَ اللهُ تعالى السماءَ عن الأرض وَضَعَ فيها ميزانَ عدلِهِ في كلِّ شيء. وأَمَرَ عبادَه أنْ يقيموا الوزنَ بالقسط ولا يُخْسِروا الميزان. قال تعالى: ﴿والسَّمَاءَ رَفَعَها وَوَضَعَ المِيزَان* ألّا تَطْغَوا فِي المِيزَان* وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلا تُخْسِروا المِيزَان}. أيُّ عدالةٍ في الأرضِ يُمْكِنُ أنْ تتقدَّمَ على هذا العدلِ الربّانيِّ؟ وقد تجلَّى ذلك العدْلُ في عَدَمِ جَمْعِ المال في أيدي حفنة من الناس، يأكلون به أموال الناس بالباطل، ويجعلونه غيرَ مرفوعٍ إلى الحكَّام بل مَدْلُوًّا لهم دَلْوًا. فتحقيرًا لفعلهم قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. إنّ هذه الآيةَ الكريمةَ جَمَعَتْ في معناها ومغزاها كلَّ ما عَجَزَتْ عنه عُقولُ مَنْ خاضوا في العالم القديم والحديث عن نظامٍ إنسانيٍّ عادلٍ لا يَظْلِمُ فيه بشرٌ بشرًا مثلَه لا في جسده ولا في ماله. وإنّ الميزان المعنويَّ الجامعَ لكلِّ البشر هو التفاضلُ بالتقوى، وليس بالأموال ولا الجاهِ والسلطان. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
وقد وَضَعَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قواعد عَجَزَ كلُّ مُنَظِّري الاقتصاد العالميِّ الحديثِ عن أن يَأْتوا بمِثْلِها في أُسُس التَّعامل بين العمّال وأصحاب العمل معًا. وذلك بحديث جامع شامل يقوم على روح التَّسامح والتَّراحم لا على الحقد والصراع الطبقيِّ الدامي الذي لا يَنْتُجُ عنه إلّا القتلُ وسَفْكُ الدماء. فقال عليه الصلاة والسلام مُعَلِّمًا أُمَّتَه والعالمَ كلَّه في حديث رواه الصحابيُّ الجليل أبا ذَرٍّ رضي الله عنه: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هُمْ أخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخوهُ تَحْتَ يَدَهُ فلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ". إنَّ مِثْلَ هذا الحديث لو طُبِّقَ بحذافيره لكان بمَثابَةِ عيدٍ يَوْمِيٍّ لكلِّ عاملٍ كادحٍ في أرض الله. ولقد قال راوي حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي ذكرناه هو نفسه ـ قصَدْتُ أبا ذرٍّ رضي الله عنه ـ مقولةً يُمْكِنُ جَعْلُها قاعدةً في بناء نظام إنسانيٍّ مُشْتَرِك فيه كلُّ الناس، بلا ظُلْمٍ ولا تَعَسُّفٍ ويُمْكِنُ عَدَّهُ بديلًا عن مجلَّداتٍ كُتِبَتْ في البحث عن نظامٍ عالميٍّ صناعيٍّ وزراعيٍّ وتجاريٍّ عادلٍ في أهَمِّ مقوِّمات هذه الأمور الحَيَوِيَّةِ الثلاثةِ فقال: (الناسُ شركاءُ في ثلاث: الماء والكلأ والنار). والكَلَأُ هو ما ترعاه الماشية من عشب أخضرَ أو يابسٍ والمُراد به تحديدًا هنا في الحديث ما تزرعه الأرض وما تحمله في بطنها من زروع وثمار.
إنّ العالمَ إذْ يحتفلُ بيوم العمَّال العالميِّ فهو احتفال صُوَريٌّ تمثيلِيٌّ للاستعراض فقط. إِذْ أنَّ العالمَ يَشْهَدُ بخلاف ما يُنادى به في هذا اليوم اليتيم. ذلك أنَّ الثرواتِ كانت وما زالت مُتَكَدِّسَةً في أيْدي حفنةٍ من الأغنياء المُتْرَفين الذين يملكون مفاتيح كلَّ الثروات المائيَّة والزراعيَّة والصناعيَّة والتجاريَّة. وهذا موجودٌ بشكل مُنَظَّم في أيدي دول من بينها حتّى دول عربيَّة تنطِقُ بالضّاد وتدين بالإسلام. ولكنّ واقع حالها يدلُّ على أنَّها خالفت ما دعاه إليها معتقدات الدين، مِن إقامة صَرْحٍ للعدالة في الأرض لا يُتَصَوَّرُ تساوي الناس فيه. فذلك من المحال المخالف لسُنَنِ الله في الأرض عندما جعل النّاس تتفاوت في درجات أبنائِها اجتماعيًّا وطبقِيًّا، حتّى يكون كلُّ منهم مُسَخَّرًا للآخر. قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، ولكن المُراد ألّا تُقام الدُّور والقصور والبروج العالية ولا تُقْتَنى المجوهرات النفيسة الغالية على حساب الملايين من الأجساد الضعيفة الحانية. وصَدَقَ أميرُ البُلَغاءِ سيِّدُنا عليٌّ كَرَمَّ اللهُ وَجْهَهُ عندما قال: (ما رأيت نعمة موفورة إلّا وبجانبها حقّ مُضَيَّعٌ). إنّ العالمَ لا يحتاج إلى يومٍ للعمّال، بل يحتاج إلى قانون السماء في حكم الأرض بالعدل والسواء، واللهُ أعلمُ وأحكمُ، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة