د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثاني
نبدأ المعرفة بهذا الكائن الإنسانيّ من التعرِّف عليه في لفظه واسمه لغةً وقرآنًا. وهو الذي يطلق عليه اسمان "بشر" و"إنسان"، فما دلالتهما؟ وما الفرق بينهما؟ وما أثر ذلك وأهميته؟
أولا: لفظ 'بشر'
يأتي إطلاق لفظ "بشر" للإحالة على جانبه الماديّ الظاهر فحسب؛ ففي اللغة، يذكر ابن فارس أنّ الباء والشين والراء أصلٌ واحد: ظهور الشيء مع حسن وجمال، فالبشرة ظاهر جلد الإنسان، فيسمّى بشرًا لظهور بشرته، وتجرُّدها من الشعر والصوف والوبر، ويتميَّز عن جميع الحيوان أنّه بادي البشر. ولذا فحين يتمُّ التعبير بأنّ الشيء بشري فالمراد اعتبار معناه الأصلي من غير تعلُّقات أخلاقيَّة كما ورد في قاموس الإنسان والمجتمع.
وفي استعمال القرآن خُصَّ كلُّ موضع اعتبر من الإنسان جثَته وتكوينه المادي بلفظ البشر، نحو:﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا﴾ الفرقان:54، و:﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ ص:71. وفي قوله تعالى عن الملائكة:﴿فَتَمَثَّل لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ مريم:17، إشارةً إلى أنه تراءى لها بجثّة بشر وصورته. وعليه، يأتي لفظ "بشر" لبيان جنس الإنسان في مقابل أجناس مخلوقات أخرى مفارقة له. ويُؤذَن استقراء وروده ـ كما خلصت بنت الشاطئ ـ بأن البشريّة فيه إنّما هي هذه الآدميّة الماديّة التي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، وفيها يلتقي بنو آدم جميعًا على وجه المماثلة.
ثانياً: لفظ الإنسان
*في المقاييس الهمزة والنون والسين أصل واحد، وهو ظهور الشيء، وكل شيء خالف طريقة التوحُّش. قالوا الإنس خلاف الجن، وسموا لظهورهم، يقال آنست الشيء إذا رأيته، قال الله تعالى:﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ النساء:6، ويقال آنست الشيء إذا سمعته، وهذا مستعار من الأول، وَأُنْسُ الإنسان بالشيء إذا لم يستوحش منه.
ولقد اختلـف في اشتقاق اسم "إنسان"؛ فقيل هو من الأُنْس ضد الوحشة، وسمّي بذلك ـ كما يقول الأصفهاني في مفرداته ـ لأنّه خلق خلقةً لا قوام له إلا بإنس بعضهم ببعض، ولهذا قيل: الإنسان مدنيّ بالطبع، من حيث لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه، وقيل: سمّي بذلك لأنه يأنس بكلّ ما يألفه. وقيل من النوَس بمعنى الحركة ضد السكون، وقيل من النسيان ضد الذِّكر الذي لا يكون إلا بعد العلم، فسمّي الإنسان إنسانًا لأنّه ينسى ما علمه، وسمّيت البهيمة بهيمة لأنّها أبهمت على العلم والفهم، ولا تعلم ولا تفهم، فهي خلاف الإنسان، والإنسانيّة خلاف البهيمية في الحقيقة، وذلك أن الإنسان يصحّ أن يعلم إلّا أنّه ينسى ما علمه، والبهيمة لا يصحّ أن تعلم. وقيل هو من الإيناس بمعنى الإبصار.
والحاصل في هذا الاختلاف هو أنّ كل رأي ذهب إلى تبنّي معنى اشتقاقيٍّ واحدٍ، مُعتبرَهُ المعنى الحصريّ دون غيره، ممّا يقود إلى التساؤل: ألا يمكن جمع هذه الاشتقاقات ومعانيها وتركيبها في معنى واحد، كما هو واقعيًا كيان واحد؛ إذ الإنسان في حقيقته كلّ ذلك مجتمعًا: أُنس وحركة، وعلم وسمع وبصر وعقل ومشاعر ووجدان، دون إغفال أنّه ينسى، وأنّه ظاهر باد للعيان يُستأنس لا خفيّ كالجن؟!!
* أمّا في الاستخدام القرآني فيلاحظ ورود لفظ الإنسان في سياق نعته بصفات متّصلة بالأخلاق والقيم النفسيّة سلبيّـة كانت أم إيجابيّة؛ كظلوم، وجهول، وهلوع، وجزوع، وسَمِیعًا بَصِیرًا، وشاكرًا وكفورًا. لقد خُصّ كلّ موضع اعتبر منه أبعاده الروحيّة ومتعلَّقاته الأخلاقيَّة بلفظ "إنسان"؛ إذ ليس مناط إنسانيته فيما تمَّ الاستقراء من آيات القرآن ـ كما خلصت بنت الشاطئ ـ مجرَّد كونه منتميًا إلى فصيلة الإنس، كما أنّه ليس مجرَّد بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وإنّما الإنسانيّة فيه ارتقاءٌ إلى الدرجة التي تؤهِّله للخلافة في الأرض، واحتمال تبعات التكليف وأمانة الإنسان، لأنّه المختصّ بالعلم والبيان والعقل والتمييز…
إنّ لفظ "إنسان" ينطوي أساسًا على معنى الدين والروح والمتعلّقات الأخلاقيّة؛ وقد نبّه الخالق تعالى ـ كما بين الأصفهاني في تفصيله ـ على أنّ الإنسان لا يكون إنسانًا إلا بالدين، ولا ذا بيانٍ إلا بقدرته على الإتيان بالحقائق الدينيّة، فقال تعالى: ﴿الرَّحْمَن* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ الرحمن:1-4. فابتدأ بتعليم القرآن، ثم بخلق الإنسان، ثم بتعليم البيان، ولم يُدخل الواو بينهما، وكان الوجه على متعارف الناس أن يقول خلق الإنسان، وعلمه البيان، وعلمه القرآن. فإنّ إيجاد الإنسان ـ كما يرى ـ مُقدَّم على تعليم البيان، وتعليم البيان مُقدَّم على تعليم القرآن، لكن لما لم يُعدَّ الإنسان إنسانًا ما لم يتخصَّص بالقرآن، ابتدأ بالقرآن، ثم قال:﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ﴾، تنبيهًا على أنّه بتعليم القرآن جعله إنسانًا على الحقيقة، ثمّ قال:﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾، تنبيهًا على أنّ البيان الحقيقيّ المختصّ بالإنسان يحصل بعد معرفة القرآن، فنبّه بهذا الترتيب المخصوص، وترك حرف العطف منه، وجعل كلَّ جملة بدلًا ممّا قبلها، لا عطفًا، على أنّ الإنسان ما لم يكن عارفَا برسوم العبادة ومتخصِّصًا بها لا يكون إنسانًا، وأنّ كلامه ما لم يكن على مقتضى الشرع لا يكون بيانًا.
وعليه، سُمِّي الإنسان إنسانًا إحالةً إلى أربع جوانب فيه تناسبًا معها: تكوينه المزدوج (مادّة وروح)، شرفه وفضله، وغاية وجوده، وفعله المختصّ به؛ فـالإنسان من حيث هو إنسان ـ كما يبيّن الأصفهاني في ذريعته ـ كلّ واحد كالآخر كما قيل: فالأرض من تربة والناس من رجل. وإنّما شرفه بأنّه يوجد كاملاً في المعنى الذي أوجد لأجله، وبيان ذلك أن كل نوع أوجده الله تعالى في هذا العالم، أو هدى بعض الخلق إلى إيجاده وصنعه فإنه أوجد لفعل يختص به، ولولاه لما وجد، والفعل المختصّ بالإنسان ثلاثة أشياء:١- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ هود:61؛ وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.٢- وعبادته المذكورة في قوله تعالى:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56، وذلك هو الامتثال للباري عزّ وجلّ في أوامره ونواهيه.٣- وخلافته المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ الأعراف:129، وغيرها من الآيات؛ وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة.
فالإنسان إذًا سُمِّي إنسانًا بهذه الحيثيّات، وخاصّة شرفه وما أوجد لفعله؛ فشرفه بتمام وجود ذلك الفعل منه، ودناءته بفقدان ذلك منه. وذكر هذه الحيثيّات هنا من باب الإشارة السريعة فحسب، سيأتي تفصيلها لاحقًا باعتبارها عناصر للبناء المعرفي القرآني بالإنسان.
وبهذا، يكون قد تبيّن الفرق بين "بشر" و"إنسان"، وما يشير إليه كل لفظ؛ فالتعبير بـ "بشر" للإحالة إلى جزئه الظاهر الماديّ الصرف، وما يتعلَّق به، فيما يعدُّ التعبير بـــ"إنسان" شاملًا خلقتَه المزدوجة الكاملة (المادّة والروح)، إلى جانب طبيعته وفضله وشرفه وما اختصّ به. وهو الأمر الذي ينبغي مراعاته عند صياغة المفاهيم المتعلّقة بهذا الكائن وقضاياه، أي وجود الفضل والذكر وسائر الأخلاق الحميدة والمعاني المختصَّة به، فإنّ كلَّ شيء عدم فعله المختصّ به لا يكاد يستحقّ اسمه، ما يعني أنّ قيمتَه متأتِّيةٌ من إنسانيَّته لا من بشريَّته، فالأولى أصل والثانية تبع، أو الأولى راكب والثانية مركوب. ويكون الإنسان إنسانًا باعتبار ما له من فضل نوعًا على غيره من المخلوقات؛ أي بـما به صار إنسانًا وهو العلم الحقّ والعمل المحكم، فبقدر وجود ذلك المعنى فيه يفضل، ولهذا قيل الناس أبناء ما يحسنون، أي ما يعرفون ويعملون من العلوم والأعمال الحسنة، كما فصل الأصفهاني وبيَّن.
وخلاصة القول، فإنّ هذا التفريق بين الإطلاقين إنّما يدلّ من وجه على دقّة اللسان العربي، وقبله البيان القرآنيّ المعهود في نظمه واستعمالاته اللغويّة غاية الدقّة والتناسب؛ إذ لا مجال فيه للاعتباط أو اللفظ كيفما اتفق. ومن وجه آخر، فإنّ له أثرًا كبيرًا في التنظير لقضايا الإنسان في هذا العالم؛ إذ يدخل في صميم تأصيل المفاهيم الخاصّة به، من قبيل التنمية أو الحضارة أو التقدُّم... فوصفها بالإنسانيّة يجعلها تشمله في صورته الكاملة وحاجاته الشاملة، فلا تنحصر في الاعتبارات الماديّة الضيِّقة أو الإشباع المادي وما شابه، بل يمتدّ إلى الجوانب المعنويّة التي تؤكِّد الكمال الإنساني.
*****
المصادر والمراجع:
* مقاييس اللغة، ابن فارس.
* مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني.
* الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري.
* الإنسان ذلك المعلوم، عادل العوا.
* قاموس الإنسان والمجتمع، هادي العلوي.
* مقال في الإنسان دراسة قرآنية، عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ.
* تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، الراغب الاصفهاني.
* الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الاصفهاني.
* مفاهيم التنمية البشرية في القرآن، فريدة زمرد، مقال في مجلة الفرقان الأردنية، العدد ٧٢، ٢٠٠٨.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!