وقفات مع الهجرة... دروس وعبرة!
لم يخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكَّة إلى المدينة طوع أمره ولا من بنات خاطره، وهو النبيّ الموحى إليه والذي لا ينطق عن الهوى. ولكنّ أمر الله كان متقدِّمًا في ذلك والإذن منه لعبده ومصطفاه. ذلك أنّ الهجرة ليست غاية بحدِّ ذاتها وإنّما هي وسيلة لغايات أكبر من مجرَّد انتقال من مكان لآخر من أرض الله، فالأرض كلّها لله، وليس أحد فيها إلّا هو عبد له شاء أم أبى. وليس ذلك في الأرض وإنّما ذلك في السموات أيضًا، والله تعالى يقول: ﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا﴾]مريم[93. ومن هنا ننطلق في القول لنقول إنّ المسلمين عاشوا في بداية دعوة رسول الحقّ حقبة من الزمن ذاقوا فيها المرّ وألوان العذاب في أنفسهم وأموالهم وجميع أحوالهم. وكانت تلك الفترة بمثابة تمرُّس واختبار. وما كان لهم إلّا الصبر وانتظار الجنَّة، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لآل ياسر ـ وكفّار قريش يصبّون عليهم العذاب صبًّا ـ: "صبرًا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنَّة". وكانت فترة ما قبل الهجرة الكبرى هي فترة الاختبار والانتظار إلى أن تنصقل النفوس وتنكشف المعادن الرخيصة منها من النفيسة.
إنّ ما سبق الهجرة الكبرى من مكَّة إلى المدينة هجرة صغرى من مكَّة إلى بلاد الحبشة. حيث وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تلك الهجرة باب من أبواب الفرج لمن أحبَّ الخروج وقال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكًا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتّى يجعل الله لكم فرجًا ممّا أنتم فيه". وهكذا كان، ولكن الأمر ما كان إلّا تمهيدًا وتعويدًا للخروج الأكبر. حيث أنّه بعد أن نضجت الظروف وبلغت القلوب الحناجر ولم يعد ينفع إلّا التغيير من الخارج بدم جديد يمتزج فيه المهاجرون ومن نصروهم من أهل المدينة بدم واحد جمع بين الأخوَّة والمصاهرة وفتح الدور، تلك الأخوّة التي ليس لها مثيل ولا حتّى في كتب الأساطير، والتي جسَّد وصفها أصدق القائلين ربّ العالمين في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾]:الحشر9[. أجل إنّها بداية وليست نهاية، حيث أنّه ما كانت لتتحقَّق تلك الصفات بالوافد والمستقبل لولا أنّ مرحلة التربية والصقل قد بلغت مداها من التمييز بين الطيِّب من الخبيث.
ولكنّ الهجرة الكبرى بذاتها كانت اختبارًا إلهيًّا، جمع بين اختبار النفوس بترك الدور والأهل والمال والولد والخروج ـ ربّما في أكثرهم ـ حفايا، وقد تركوا النفيس من المال خلف ظهورهم ورسموا معاني الآية التي تمدح المهاجرين في عموم المعنى، رسموها فعلًا لا قولًا:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾] التوبة[20. لقد طبّق المهاجرون حقيقة الهجرة قبل أن يهاجروا الهجرة الجسديَّة من ديار إلى ديار. فلقد قضوا أكثر من عشر سنوات في مدرسة الاختبار والامتحان، في مدرسة لا إله إلّا الله، التي لم تنطق بها شفاههم وتنفصل عن قلوبهم وأعمالهم. ممّا جعل صناديد الكفر والشرك يفعلون بهم الأفاعيل من ألوان العذاب والمقاطعة. ليمرّ عليهم وقت يأكلون فيه أوراق الشجر وتتلوّى صبيانهم من الجوع والعطش. ولكن كلّ ذلك لم يجعلهم يخوروا ولا يرتدّوا، وسِرُّ ذلك كلّه قاله ملك كافر لأبي سفيان وهو يسأله عن صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان مما سأله هرقل ملك الروم: وهل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن تركه؟ فقال أبو سفيان: لا. فكان جواب هرقل على ردّ أبي سفيان: وكذلك الإيمان اذا خالطت بشاشته القلوب.
ومن هنا يمكن القول أنّ الهجرة قبل الهجرة كانت بالصبر على الأذى وترك متاع العيش وبذخه إيثارًا لما هو باقٍ على ما هو فانٍ. ألَمْ يكن مصعب بن عمير ينعم بالعيش الرغيد ويفوح عطره للبعيد قبل القريب؟! ولكنّه عند موته رضي الله عنه لم يجدوا ما يغطّوا به قدميه إذا غطّوا رأسه. إنّها هجرة من نوع آخر هي الهجرة الباقية إلى يوم القيامة. يقوم بها كلّ من قدّم آخرته على دنياه. لقد هاجر المسلمون مع رسول الله وهم يعلمون ما تركوا وراءهم لقد ترك التجّار منهم تجارتهم ليتاجروا مع من يرجون معه تجارة لن تبور. وليس بقليل على من قضى سنين طويلة في موطنه وبين أهله وأحبابه وجمع من عرقه وكدِّه ما يعينه على شظف وشدَّة عيشه، ومع ذلك كلّه فهو يترك ذلك كلّه ويرضى أن يبدأ من أوّل الطريق، في موطن عليه جديد. إنّ الذي يترك في النفس أثرًا ليس المتاع الدنيويّ فقط، إنّ الله سبحانه جعل في النفس البشريّة ما يدفعها لحبِّ موطنها الأصلي والتعلُّق بترابه، وتنشقٍ مستدامٍ لنسيم هوائه. وهو ما عبر عنه الشاعر أصدق تعبير فقال:
وطني لو شُغِلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وقد عبَّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصدق تعبير عندما قال يهاجر من مكَّة امتثالًا لأمر الله، قبل أيّ دافع آخر، فقال مخاطبًا موطنه الأصلي مكَّة: "والله إنّك لأحَبُّ أرض الله إلى نفسي ولولا أنّ قومي أخرجوني منك ما خرجت". ولكنّ نصرة الدين وعزَّته تفوق حُبَّ الوطن وتربته. ومع هذا كلّه فالله لم يخذل نبيَّه ولا أمَّته فقال لرسوله ما يريح قلبه وينعش فؤاده:﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ]القصص[85. وهل من ثمَّة شكّ عند رسول الله في فرضيَّة القرآن عليه وحمله له للعالمين؟ لا شكّ في ذلك أبدًا. وإنّ ما يماثل ذلك في الفرضيّة والحتميّه الرجوع إلى الموطن الأوّل والشاعر يقول:
وكلّ مسافر سيعود يومًا إذا رزق السلامة في الإيابا
ولكنّ عودة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تكن سلامة في الوصول وحسب وإنّما نصر وفتح وعزّة ورفع قدر للأمّة. تشكِّل الهجرة النبويّة مشكاة مشرقة في عنان محياها ودرس وعبرة لمن أراد معرفتها ولقياها والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن