غزّة تُؤرِّخ العام الهجري الجديد
إنّها الهجرة، ليست قصةً عابرة لقومٍ سفّهوا أحلامَ قريش وعابوا آلهتهم فاستعدَوها فسامَتْهم سوءَ العذاب، إلى أن شقّ عليهم ذلك، فولّوا فارّين زُرافاتٍ ووُحدانا، بل هي غرسٌ يشتدّ عوده ويستوي على سُوقه، ثم يزهر مع بداية كلّ عام هجريّ، فتلَذُّ له الأبصار، ويطيب به الخاطر، وتعقد بجماله آمالُ استرداد الأمّة عصرَها الذهبي، الذي ليس بينها وبينه إلا أن تستيقظ من رُقادها، وتقرأ دروس الهجرة التي لا تنتهي. وها هي ذي بعضٌ منها:
• أن تكون ثقةُ المؤمن بربّه أعظم من ثقته بنفسه وبالناس؛ وخير ما يمثِّل هذه الحقيقة: مخاطبةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم _ وهو مطارَد في الصحراء تُغري قريش من يمسك به بمئة بعير _ لسُراقة بن مالك: كيف بك إذا لبستَ سُوَارَيْ كسرى!. ولعلّ نسائم هذه الثقة لم تزل عابقةً في نفوس طائفة أكناف بيت المقدس؛ الذين يجاهدون اليوم في غزّة، حيث يقف خطيبُهم (أبو عبيدة) بكلّ ثقة واعتزاز فتُصغي له الدنيا وهو يلقي خطابه ويرفع إبهامه ويذيِّل كلامه بالقول: 'وإنّه لَجهاد نصرٌ أو استشهاد'.
• إن الهجرة استكمالٌ لنيل الفضائل وحفاظٌ على الأنَفة والكرامة، وليست مجاراة الأعداء ومداهنتهم، والتطبيع معهم، والسكوت عن إجرامهم، والتنازل في الدين والقِيَم، فتتغيَّر نُظمُ التعليم وتُفتح المسارح والمعازف، ويُحتفَى بالعواهر والشواذّ، بحُجّة الحفاظ على وجود الدولة!.. ألا فبئس الحُجّة هذه، قل هي إحدى الحُسنيين إمّا النصر وإمّا الشهادة، وما أنبلَ قولَ عنترة:
لا تَسْقني ماءَ الحياةِ بذِلَّةٍ بل اسقني بالعزِّ كأسَ الحنظلِ
• إنَّ العفوَ هو سِمة هذا الدين العظيم، وإنّ المهاجرين الذين عادوا إلى مكّة فاتحين وقد أُخرجوا منها مسلوبي المال والأرض فيما مضى، لم يعودوا قتلةً منتقمين كما تفعل جيوش الغرب اليوم وهي تساند الكيان الصهيوني وتحرق في غزة الأخضر واليابس، وتسوّي المنازل بالأرض، على أشلاء النساء والأطفال، وهي تدَّعي الإنسانية وتَمثُّل تعاليم المسيح عليه السلام، وما جاء في إنجيلهم: (رُدَّ سيفك إلى مكانه؛ لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يَهلِكون)، إنما عادوا رحماءَ يُطمئنون قريشًا من مخاوفها، وهم يقولون على لسان الرحمة المهداة للعالمين: 'ما تظنون أني فاعل بكم؟!.. اذهبوا فأنتم الطلقاء'.
• إنّ الإيثار الفريد الذي حصل بين الأنصار والمهاجرين، والذي مردّه إخاء الدين والعقيدة، يوجب علينا اليوم أن نقف مع أهل غزَّة بكل ما نملك، وأن نناصر أولئك المجاهدين الذين آثروا حياة الأنفاق على حياة الدعة والرخاء، لرفع هامة المسلمين عاليًا في ذُرى المجد، فلقَّنوا الصهاينة والعالم الذي تآمر عليهم درسًا قاسيًا من الخزي والعار، وفضحوا المتخاذلين من الشعوب والمتواطئين من حكّام العرب الذين لا يعنيهم دين ولا عقيدة، ولا حتّى إنسانيّة أو جيرة، بل كل ما يطوف في أذهانهم هو الحفاظ على المنصب والسيف المسلّط على رقاب الشعوب.. وليس ببعيد تحقق وعيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم: 'ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتَهَك فيه من حُرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يُحبّ فيه نصرته' (رواه أحمد في مسنده)
• إنّ أهل غزَّة هُجّروا عدّة مرات في قطاعهم الذي حبسهم فيه العالم المنافق، فضحَّوا بالأنفس والمال والدار، وتعرّضوا لأبشع أنواع الإجرام العالمي من قتلٍ وتهجير، ودمارٍ وتجويع، بهدف ثَنْيِهم عن مساندة مجاهديهم، وبغية ضرب البيئة الحاضنة، لتكفر بأبنائها المجاهدين، وهذا لم يحصل، بل كان العكس، ثبت أهل غزّة على دينهم وعقيدتهم، ولم يزدهم الظلم إلا إصرارًا وصمودًا، فكانوا بجِد كتابًا يجدر أن تتدارسَه الأجيال المتلاحقة، جيلًا بعد جيل.
إنّ ذكرى الهجرة ليست حدثًا عابرًا يجري كما تجري الأيام ثم يُنسى ويزول، بل هي استيلاد أمّة أكسبت البشرية عناصر قوتها وغيّرت وجه التاريخ، وإنها حاضرةٌ اليوم في غزة، وغدًا في بلد مسلم آخر، وهكذا دواليك، إلى أن يأتيَ أمر الله، ويُقتل اليهود الأوغاد، وينطق الشجر فيقول: 'يا مسلمُ يا عبد الله، هذا يهوديٌّ خلفي، فتعال فاقتلْه' (صحيح مسلم).
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة