موائد الرفاهية.. ودموع غزّة الباكية
حاولتُ أن أكذِّب عينيّ عمّا تراه بما يسمّى حقّ اليقين عبر الصور المنتشرة للموائد المُقامة مدّ النظر لما طاب ولذّ من الخرفان ومعها الفواكه وأطايب الحلوى وما تشتهيه أكثر الناس في الأحلام.. وكلّ ذلك في كفّة وأن ترى ذلك كلّه يشارك فيه دعاة السُنّة ومن مشاهير قرّاء القرآن والبهجة والمسرّة والضحك يسود ذلك المكان. وبالمقابل تجد أهل الفخر والعزّة في أرض غزّة هاشم أطفالهم والرضّع منهم تحت أنقاض المباني نيام بلا كسرة خبز ولا شربة ماء تصفوا من التلوّث وتنفع حتّى للأنعام. أردْتُ المقارنة في ذلك والمقابلة بين ذلك وبين ألف عام وأكثر مضى من الزمان. عندما حمل الخليفة الزاهد عمر رضي الله عنه وأرضاه على كتفه من الطعام والشراب في كيس خيش مثقل حمله. ولمّا أراد مرافقه حمله عنه قال له عمر: وهل تحمل عنّي أنت ذنوبي يوم القيامة؟ كان ذلك عندما كان الخليفة الزاهد يتفقّد الرعيّة متخفّيًا في حالك الظلام، ووجد امرأة وهي تحرك القربة وأطفالها نيام. ولمّا سألها ماذا في قربتها هذه قالت حجارة تحركها أمام عيون أطفالها لتوهمهم بأنّه طعام فتذبل أعينهم ويناموا ويمرّ الوقت إلى الصبح بسلام.
وعاد عمر إلى بيت مال المسلمين ويحمل مع من رافقه للمرأه المسلمة وأطفالها حقّهم من الذي حرموا منه لا بواسطة ولا بمن ينوب عن الخليفة في سلّم المناصب والسلطان. وقلت يا الله أهؤلاء أمّة يتقدّمهم خليفة ونحن أمّة ويتقدّمنا حكّام أمثال حكّام هذا الزمان؟ وقلت في نفسي: إنّ أوّل ما يمكن مقارنته في هذا الشأن الغيرة المفتقد أثرها بين حاضرنا وبين الذي قد كان. غيرة الدين والإيمان اللذان لا يمكن أن ينفع أن يعوّض عنهما من يتصدرون مناصب الدعاة لإحياء السُّنّة ومحاربة البدعة، ومن يقرأون كلام الله وينشرونه للسماع بين الأنام. وكلاهما أنموذج لمن قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمثالهم: "وإذا رأيت العلماء على أبواب الأمراء فبئس العلماء وبئس الأمراء". ولكن ما علاقة الأمراء بما نقول هنا؟ الجواب يتكلّم عنه الواقع بلا أدنى شكّ. فهناك ترابط عضوي وحسّي بين مواقف الأمراء الحاكمين في بلادنا وبين من هم في جوارهم جواريي لهم. ولكن باسم الدين لهم عبيد وخدّام. إنّ الحقّ يستدعي لمن عَقِلَ أمرَ دينه، إذا ما كان عالمًا أو لكتاب الله تاليًا، أن يكن بالحق ناطقًا وليس للباطل مروِّجًا ومزيِّنًا. ولكن ما يمنع مثل هؤلاء من الجهر بالحقّ أمرين اثنين لا ثالث لهما، فأمّا الأمر الأوّل فهو الخوف على الحياة من البطش والأذى، ولسان حالهم يقول لنسلم ألسنتنا من مقارعة الحكّام وقول الحقّ لهم بلا مواربة ولا بهتان. ويزيّنون باطلهم بتحريف قول الله تعالى في معناه: {وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم}، ويتوقّفون عند أولي الأمر هنا، ونسوا أو تناسوا ما قبلها من طاعة الله والرسول، وهي متقدِّمة على طاعة أولي الأمر. وفي علم الله الأوّلي أنّه سيأتي ولاة أمور ليسوا منهم أي ممّن تجب عليهم فيهم الطاعة. هذا أوّلًا، وثانيًا "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" فهل الطاعة هنا مطلقة وعمياء؟ لا أبدًا، بل لا بدّ من التصحيح عند المخالفة والنصيحة. وإذا لم ينفع هذا ولا هذا فلا بدّ من المواجهة، وليكن ما يكون، فقد بشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يواجهون الباطل وأهله من ولاة الأمور وأصحاب السلطان، بأن تكون منزلتهم مع سيّد الشهداء حمزة رضي الله عنه في الحديث الشريف: "سيّد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله".
ولكن ما الرابط هنا بين ما تقدّم قوله عن الموائد المقامة والأفراح المزدانة في أرض مهد الرسالة الخاتمة وبين الأمعاء الخاوية الملتهمة للفتات في أرض المعراج؟ إنّه رباط الدين الذي جمع الله رباطه الأمين في قوله تعالى: {إنّما المؤمنون أخوة}، وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من بات ولم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم". وقول الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (لو تعثّرت دابّة في العراق لحوسب عنها عمر لما لم يمهّد لها الطريق). أليس ذلك كلّه كافيًا لنقول إن الواقع يقول إنّ هناك غياب وتغييب الأخوة والإيمان وحقّ المسلم على المسلم في السؤال عنه والاهتمام وغياب رقابة الحاكم في حفظ طريق المسلم وصونه عن السقوط وتعثّر الأقدام.
إنّ ما جرى ويجري في أرض غزّة هاشم وهي قطعة من أرض فلسطين المباركة هي ومن حولها بشهادة القرآن لكونها في أرض الإسراء والمعراج في القدس الشريف: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}. وإذا كان الله تعالى قد بارك هذه الأرض فيعني أنّ لأهلها من البركة والرحمة في ذلك ثمّة نصيب. فشرف الأرض بشرف ساكنيها والله تعالى يقول: {لا أقسم بهذا البلد* وأنت حلّ بهذا البلد}. ومن هنا نقول أنّ الإحساس بما يعانيه أهلنا في غزّة هو واجب شرعي وأخلاقي. وليس يعني ذلك أننا نقول لنصوم جميعًا بصوم أطفال ونساء أهل غزّة، وإن كان ذلك من المناقب العليّة التي تحتاجها النفوس عالية الدرجات ذكية. ولكن بالحدّ الأدنى من المراقبة والمشاركة الإيمانيّة الأخويّة.
جعلنا الله وإيّاكم من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء السادس
رحمةٌ مهداة
ويلٌ للعرب من وحشٍ قد أُطلِق عنانه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الخامس
موائد الرفاهية.. ودموع غزّة الباكية