مـا الشِّعر!؟؟
الشِّعر وسيلة تعبير عن الفكر والشّعور بالكلمات الجميلة المنطوقة أو المكتوبة، ذات الإيقاع المتــناسق، وبحضور الخيال المبدع، والعاطفة العميقة.
نعم، ففي خلجات الإنسان، أيّ إنسان، تَوقٌ عارمٌ إلى الإفصاح عن المكنونات، وبثّ الآخرين لواعج الذّات، والتّأثير في خفقات الكائنات، والعروج بهم إلى بنات لُـــــــبِّه المدلَّلات، والذّوبان في وعاء إحساسه بسُبَات... والإنسانُ حينَ تضطرب في داخله الأفكار العاصفة، أو المشاعر الصّارخة، يتلمّس الكلمات المقتدرة، والـجملَ الرّاقية، ليصطنع منها جسر العبور إلى القلوب الموصَدَة، لكنّــه لا يقرعها قرْع أيّ زائر، بل يَفْتَنُّ فَيَفْتِنُ، يَفْتَنُّ في أنغام ملامسته البابَ، ويرسم عليه سيمفونيّة عذْبة، فَيَفْتِنُ مَنْ وراءَ الباب، ويدخل باسطًا فوق جناحيه صورَ الـخيال الَّذي يتحدّى المألوف... فتطول الإقامة.
ولا ريب أن الشّعر موغِلٌ في القِدَمِ، في تاريخ كلّ الأمم والحضارات، وفي مزاملة الأديان والفلسفات قاطبة. إنّه وَفق رأي جمهرة النّقّاد أسبق في النَّشأة من النّثر الفنّــيّ، وألصق بالنّفوس. فالشّعر يواكب فطرة الإنسان، ويسافر معها في رحلاتها عبر الزَّمان، ويردّد أصداءها الصّاخبة، وهمساتها النَّاعمة، فكيف يستأثر قوم بالشِّعر من دون قوم؟ محال... محال!!! وكيف نتصوَّر أن ينقرض الشّعر، وينزوي في متحف أثريّ؟؟؟ ذلك وَهْمٌ بعيد!! كلُّ حديث عن تحوّل البشريّة من ثقافة الحرف إلى ثقافة الرّقم، حديثُ خُرافة، وأضغاثُ هُراء، فلن يملك الإنسان- وإن سما في فضاء التَّطوّر الـتِّقنيِّ- أن يعيش بلا قلب، أو أن يسلخ وجدانه، أو أن يفتك بما تُنشئه مخيّلته أثناء إطباق جفنيه. لقد نبت الشِّعر في صحراء النَّفْس البشريّة، مع تغريد البلابل في الأكوان، وحفيف الأوراق في الأغصان، وخرير المياه في الغدْران، نَبَتَ مع تنهّدات الإنسان، والسّرور الَّذي يهزّ فيه الأركان.... فلن ينسحب الشِّعر، ولن يعلن إفلاسه، ولن يستقيل، ما دام الإنسان هو ذلك الإنسان!
وقد حلَّقت ابتكارات الـنّاس في تظهير الشّعر، وصياغة تعريف له، يتجاوز الشَّكل الخارجيّ، ويحاول النَّفاذ إلى العمق. فإمّا هو ترتيل كَهَنَةٍ، وإمّا هو نَفْتة سَحَرَةٍ، وإمّا هو إلهامُ جِنٍّ، وإمّا هو لوثة مجانين. وقرنه البـعضُ بالرّؤيا والـمنامات، ونسب البعض إلى صاحبه العُقَدَ والعاهات، وجعله آخرونَ ولدًا طبيعيًّا للـنّكبات...
ولذلك تجده محور درسات معمَّقة ذات أبعاد فلسفيّة ونفسيّة واجتماعيّة. وتلك الأبعاد عناوينُ عريضة تضمُّ تحتها أبعادًا أخرى. لقد تداخلت جملة الـمعارِف الإنسانيّة في تعليل نشأة الشِّعر، وفي تحليل آثاره، وفي رصْد المسافة بين الشّاعر وقصيدته، ثمّ أدلت العلوم الطَّبيعيّة بدلوها، أو دِلائها، فولغتْ في إناء الشِّعر، وحاولت تشريحه كأنّه فأر تجارب، ووضعته تحت مجهر الفحص المخبريّ، مسلِّطة عليه نظريّات النّشوء والارتقاء، وغيرها...
غير أنَّ الشِّعر في مسيرته الطَّويلة تلك، آثر أن يتعالى، ويتسامى، ويتسنّم ذروة التَّألّق، فكانتْ له في نفوس الشُّعراء وجماهــيرهم مكانةٌ تأبى عليه أن يكون مجرَّد أصواتٍ انفعاليّة، أو كلمات تنشد الـجمال، أو وعاءً ينتظر أن يسكب فيه الآخرون الحساء الّذي يريدون... وهكذا صار للشِّعر حاجة إلى أن يلتحف رداءً يفيض عليه بالاحترام الأمثل، صار للشّعر حاجة إلى رسالة يتشرَّف بها.
وعن هذه الرِّسالة نتحدّث...
إنّ الكلمة الَّتي تعجز عن صناعتها سائر الكائنات الأرضيّة، واصطفى الله بها الإنسان، هي أمانة أودعَها صاحبَ العقل، وصاحب المسؤوليّة، أودَعَها من يدرك عواقبها، ويتحسّس أثرها وخطرها. والأمرُ في مجال الشّعر أوضح، لأنّ الشّعر بما يرافِقُه من وسائل تأجيج للمشاعر، ومداعبة للأخيلة، واصطفاء لبواعث الجمال، يغدو أكثر تأثيرًا في النّفوس، واقتحامًا للقلوب. إنّ الشِّعر هو ذلك السِّحْر الحلال الّذي يمتلك ناصية الفنون، ويعتلي عرش الكلمات في سكون. ولذلك ينبغي أن يُوضَع الشعر في موضِعِه الرِّساليّ، ويتفهَّم أصحابُه أنّ حروفهم وكلماتهم وجملهم تُحصَى عليهم، أليس الغُرْمُ بالــغُنْمِ؟ لقد وُهِبُوا طاقاتٍ إيحائيّةً، فهلَّا أدَّوا شُكْرَها! إنّ الـدّرَجَة الّتي تبوَّؤُوها درجةُ تكليفٍ لا درجةُ تشريفٍ، فليدركوا ما يترتَّب على هذا الـتَّكليف.
ولكن ثــمّة نظريّات كثيرة تتفرَّع من مقولةٍ واحدة، وهي أنّ الـفنّ للفنّ، فليقل الأديب أو الشّاعر ما شاء، طالما أنّه يحقّق جمالًا في الــتّعبير. اتركوا الشّاعرَ يغرِّد فوق الشّجرة الّتي يريد، ويرسم بالرّيشة الّتي ينتقي، وينحت بالإزميل الّذي تأنس له أنامله، وبذلك يبدع في حرّية وانطلاق، ويصبح نصّه الشّعريّ واحة غنّاء في صحراء الحياة القاحلة!
هذه الــمقولة تبدو جميلة، لأنّ كلّ إنسانٍ يميل إلى الـتّفلّت من القيود، ويهرب من الالتزامات، ويجد التّقوقع في الذّات مأمنًا من تحمّل الـمسؤوليّة. لكنّ هذا النّأي بالذّات يخلع عن الشّاعر صفة الرّيادة، ويبعده عن تصدّر نخبة القوم. كيف يريد الشّاعر أن يكون له جمهور يصفِّق، وهو لا يُصفِّق إلّا لذاتِه الصّغيرة؟ كيف تسير خلْف قصائدِه الأجيال، وهو يسير مخمورًا وراءَ فرديَّـــتِه الأنانيّة؟؟؟ وهل كتابة قصيدة تتغنّى بالـجمالِ تكفي لاجتذاب أمّة، والتّعبير عن كينونتها؟؟؟ أيكون ذلك الطّائرَ الّذي يغرِّد خارج سربه!؟
نحنُ لا نريد أن يغرَق الشّاعر في لـجج السّياسة، وأن تغدو أشعاره بياناتٍ عسكريّة، أو ورقة عملٍ حكوميّة، أو وثيقة ثوريّة، لكن لا بدّ أن تتضمّخ أشعاره بعبير الواقع، وأن تتشرَّب رحيق الشّعوب، وأن تتلظّى بحروق الأمّة، وأن تتدفّق في شرايـــينها دماءُ القرّاءِ. على الشّاعر قبل أن يؤثِّرَ أن يتأثَّر... عليه قبل الولوج إلى دخائل الـنّاس، أن يُدخِلَهم إلى ثنايا سطوره، ويُفْسِح لهم مكانًا رحْبًا للــتّنزُّه بين كلماته.
للشّاعر أن يلتفتَ إلى طوايا نفسِه، ويعزف على وتر ذاتِه، بين الحين والآخر، ليس عليه أن يختق آلامه، ويكبت أوجاعه، لكنّ ذلك لا ينبغي أن يستأثر بخالص إنتاجه، ولا يغلب على ثمار قريحته، وليكن كالـمِلحِ في الطّعام، أو كالـمقبِّلات قبله، أو كالـتّحلية بعده.
وتبقى مسألة عالقة في شباك هذه القضيّة:
إذا توافَقْنا على وجوبِ الالتزام الأدبيّ، وانصياع الشّاعر لهموم الأمّة، والانسجام مع خلجات جمهوره، فكيف يكون منـهجه في ذلك: أيُملي عليه الـجمهور وجهة نظره، ويرسم له الأطر العامّة لقصائده، ويجذبه إليه؟ أم يتفكّر في خلوات ذاته في ما يرتـــئيه من خير لجمهوره، فيكون شعره موجِّهًا لا موجَّهًا؟؟؟
لا ريب أنّ الـجواب مرتبطٌ بواقــع جمهوره، ومـقدار وعيه، وثباتِه على الأسس الّتي تشكّل القاعدةَ الفكريّة لقيمه وطموحاته. قد يكون الـجمور أرقى فيقود شعراءَه إلى جادّة الصّوابِ، وقد يكون الشُّعراء أرقى فيعملون على تأطير الـجمهور، وتسديد مسارِه، ليوافِقَ فِكرُه سلوكَه. وهكذا نتَّفِق مع بعض قدامى الـنّقّاد حين ارتأى أنّ رسالةَ الشّاعر تصويرُ أمّته كما ينبغي أن تكون، لا كما تكون.
فارتفِعْ أيُّـــها الشِّعر في أجواز الفضاء، فوق كلّ الغيوم الدّكناء، والـــنُّجومِ ذاتِ اللّألاء، وتصفَّحْ كواكب العلْياء، فأنْتَ أنتَ دِفْءُ الأصفياء، وسراجُ الحُكماء. ومن نقاط حروفك الـصّـمّاء، ينبجسُ الـوقار في خُيلاء. ومن كلـماتِكَ الّتي نخالُها جَوفاء، ثورةٌ شـعْواء، وسكيـنةٌ عصْـــماء. لن تخدش عظمتكَ بُكاءاتُ السّفـهاء، ولا تَفَيْهُقُ الأدعياء، وستبقى في برجِ الـــسّناء، لا تبالي بنقيق خفافيش الظّلماء، وأنانيّاتِ الأقلامِ الجرداء.
تلك رسالتُك، ولن تُمزِّقُها الأيادي الآثمة.
رسالة الشعر
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!