د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الأول
![الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الأول](https://ishrakat.com/cms/upload/articles/7819_600X400articles.jpg)
مُقدِّمةٌ لا بُدَّ منها..
لمّا كان الإنسان مكوِّنًا متفرِّدًا في هذا الوجود وسيِّدًا فيه، فقد احتفى به القرآنُ الكريمُ احتفاءً بالغًا، ليس فقط من ناحية تعريفه ببيان قصَّة خلقته وتكوينه وتطوُّراته ومساره وغايته – التي تمَّ تناولها في سلسلتنا السابقة المُعَنْوَنة بـ"الإنسان كما يُعرِّفه القرآن"، بل تعدّى ذلك إلى بيان كيف ينبغي أنْ يكونَ في هذا الوجود، وكيف يجب أنْ يحيا هذه الحياة، ويؤدّي دورَه الاستخلافي فيها، وما يُؤهِّله لينجح. وبتعبيرٍ آخرَ، إذا كُنّا قد عرفنا تصوُّرَ القرآن للإنسان وتعريفه به من الناحية التكوينيّة ومن حيث كان، ممّا ليس في مقدور الإنسان اختياره، فإنّ هناك قسمًا آخر من هذا التصوُّر والتعريف؛ وهو المتعلِّق بكيف يريده أنْ يكون، ويسعى إلى إيجاده. من هنا، جاءت هذه السلسلة بوسم "الإنسان كما يريده القرآن".
لقد أنزل الله تعالى كتابه ليهديَ الإنسان في حياته، ويصلح أحواله كلَّها، ويُبيِّن له كيف يعيش ويسلك في دروبها، وكيف يعمل لينجحَ في أداء رسالته الاستخلافية؛ أي أنّه لم يتركه هملًا ولم يدعْه لنفسه المليئة بالشوائب، والمُمَكَّنة بأخطر الإمكانات والقدرات والمواهب، ليفعل ما يشاء كما يشاء دون توجيه ولا إرشاد ولا تربية، بل أخضعه "لضرب من الجهاد النفسي يبدو في مغالبة عوامل الشر والسقوط، ونصرة عوامل الخير التوّاقة إلى الفضيلة. وهذا الجهاد النفسي هو الفرصة الثمينة التي يتمكَّن الإنسان فيها من التسامي والتصاعد المستمر نحو الاكتمال بما يقمع من نوازع الهبوط فيه، وبما يكتسب من معاني الإنسانية علمًا وعملًا" [النجار، قيمة الإنسان، ص٣٠-٣١].
وهو الذي يسمّيه القرآن "التزكية"، ذلك المفهوم المركزي فيه، جعله مقصدًا من مقاصده العليا الحاكمة، من توجيه خطابه للإنسان في كلِّ غرض من أغراضه، وكلِّ موضوع من مواضيعه كبيرها أو صغيرها، فـ"موضوعها الإنسان المستخلَف وهو موضوع الإصلاح في الواقع الإنساني، إصلاح الفرد والجماعة والأُمَّة، والإنسان مادَّة وروح، والتزكية تشمل المادَّة والروح. وأيُّ موضوع عن قضايا الإصلاح لا معنى له إلّا إذا انطبق على الإنسان واستهدف ترقيته في مراتب التزكية" [ملكاوي، التزكية في منظومة القيم الحاكمة، ص٥]
ذلك أنَّه بمقدار ما تزكو نفسه وتتطهَّر "وتصفو من كدورات الأهواء والرعونات، يخلص صاحبها في تحمُّل كلِّ ما يجب أنْ يتحمَّلَه في سبيل جنسه من المهام والواجبات المختلفة. وبمقدار ما تنطوي تلك النفس على شوائبها ورعوناتها، يغدو صاحبها مجرَّد أداة للإفساد في الأرض، ولإهلاك الحرث والنسل، ابتغاء مصالحه وأهوائه الشخصية، مهما تحلَّى ظاهرُه بالصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة" [البوطي، منهج الحضارة الانسانية في القرآن، ص٢٥-٢٦].
وبيان ذلك، أنَّ هذا الإنسان لمَا جُهِّز بأخطر الصفات والملكات والقدرات - التي لا بُدَّ منها لحصول القدرة على التصرُّف في إدارة شؤون الحياة وعمارة الكون؛ بحيث "بثَّ فيه صفة العقل وما يتفرَّع عنها من العلم والإدراك والقدرة على تحليل الأشياء وسبْر أغوارها والوصول إلى ما ورائها، وبثَّ فيه معنى الأنانية، وما يتفرَّع عنها من النزوع إلى الأثرة والتملُّك، وبثَّ فيه أسباب القوَّة ومقوِّمات التدبير، وما يتفرَّع عنهما من النزوع إلى السيطرة والعظمة والجاه، ثمَّ بثَّ فيه مجموعة من العواطف والأشواق والانفعالات تُعَدُّ مُتمِّمَةً لقيمة تلك الصفات وفوائدها، كالحبِّ والكراهية والغضب وما إلى ذلك" [البوطي،كبرى اليقينيات الكونية، ص ٦٥]، كان بحاجة معها إلى ما يضبطها ويوجِّهها لتكون مسخَّرَةً له في القيام بمهام الخلافة، وتيسير مسؤوليّاتها كما يرضى الله تعالى، ذلك لأنّ "لهذه الصفات شِرَّة كبيرة ولها آفات عظام، وهي أسلحة ذات حدَّيْن إن استُعْمِلَ أحدُهما جاء بالتنظيم العظيم للكون وبالخير الوفير للإنسان، وإن استُعْمِلَ الآخر أو استُعمِلا معًا جاء ذلك بالشرِّ الوبيل والفوضى الهائلة وأورث الإنسانية شقاء لا آخر له" [البوطي، كبرى اليقينيات الكونية، ص ٦٥].
فعلًا، إنَّ ما يملكه الإنسان من قدرات وصفات مدمِّرٌ إنْ لم تتزكَّ نفسه، فتراه يطغى كما يقول تعالى:﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ * أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ﴾ [العلق:٦-٧]؛ وما نراه في الواقع من مظاهر وصور الطغيان البشري ليس "في حقيقته إلّا نتيجة طبيعية لتحرُّر هذه الصفات من الانضباط بأيِّ قيد. حيث يذهل صاحبها عن وجود رقيب يلاحظ كلَّ تصرُّفاته ويدَّخر له العقوبة الصارمة على كلِّ ما لا يرضى عنه من أنواع السلوك والصفات، فينطلق على سجيَّته يفعل كلَّ ما تشاء له نفسه وتهواه. وليس الاستخذاء البشري وعبودية الإنسان للإنسان إلّا نتيجة طبيعية لهذا التحرّر ذاته؛ فإنّ هذه الصفات عندما تنطلق على سجيَّتها، يتصارع أربابها في حلبة هذه الحياة، فيفوز أولئك الذين فاقوا غيرهم في القوَّة وأسباب السلطان، ويقع الآخرون بالضرورة تحت حكمهم وسلطانهم. ثمَّ إنَّهم يستسلمون لما يقتضيهم الحال من قهر وذلٍّ قد ينتهيان بهم إلى عبودية مطبقة بسبب أنّهم ذاهلون عن وجود إله خالق قاهر يقضي في خلائقه بما يشاء ولا معقِّب لحكمه وقضائه. ولو أنَّ هؤلاء المستعبَدين وأولئك الطغاة المستعبِدين، أدركوا وجود الإله وصدَّقوا كلماته وآمنوا برسله، لأحجم الطغاة عن طغيانهم وتحرَّر العبيد عن العبودية لأقرانهم" [يراجع البوطي، من أسرار المنهج الرباني، ص٨-١٠].
بدون التزكية تمتلئ الأرض بجميع أنواع الفساد والطغيان، وعوامل الهلاك والخيبة؛ التي مأتاها من نفوس خربة لم تتزكَّ، فتستبد بها الآفات النفسية والشهوات، وأوهام العظمة والاستعلاء، ولا تعرف الوقوف عند حدود الله، ولا الاستماع إلى صوت «الفطرة» و«العقل» و«الضمير». بدونها تنقلب صفات الإنسان وملكاته إلى عدوّ له، وإلى عامل اضطراب وشقاء في الحياة، من شأنها أن تنسيَه حقيقته وقدر نفسه ومكانته المحدودة في الوجود في إطار المشيئة الإلهية، وتجعله ينصِّب نفسه في مقام الألوهية وسيِّد الكون فيطغى وينحرف، ويفجُر ويبغي ويتكبر، كحال من أخبر عنه القرآن في مثل قوله:﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِی حَاۤجَّ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ فِی رَبِّهِۦۤ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُ﴾ [البقرة:٢٥٨]، وقوله:﴿فَحَشَرَ فَنَادَىٰ* فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ﴾ [النازعات:٢٣-٢٤]؛ بينما كان يجب أنْ يعرفَ فضل ربِّه عليه ورحمته فيشكر الذي علَّمه وأعطاه وأكرمه كحال ذي القرنين: ﴿قَالَ هَـٰذَا رَحۡمَةࣱ مِّن رَّبِّیۖ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ رَبِّی جَعَلَهُۥ دَكَّاۤءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّی حَقࣰّا﴾ [الكهف ٩٨]، وكحال: ﴿فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّی لِیَبۡلُوَنِیۤ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیࣱّ كَرِیمࣱ﴾ [النمل:٤٠].
وعليه، تكون مهمَّة التزكية وقاية الإنسان والمجتمع من مختلف الانحرافات التي تجعل بعض الجوانب الحضارية مُدمِّرة للحياة الإنسانية والبيئة والطبيعة، وكلّ ما يسبِّب الشقاء في الحياة. مهمَّتها أنْ تُعدَّ الإنسان ليسير في عداد الصالحين المصلحين الذين لا يعيثون في الأرض فسادًا، ولا يريدون عُلُوًّا في الأرض. فلا بُدَّ إذًا من تزكّي الإنسان، وإلّا يفقد أهم مؤهِّلاته للوفاء بعهد الله وميثاقه وأداء مهام الاستخلاف على وجهها الصحيح، بل لا يصلح لذلك على الإطلاق. فمَن هو "إنسان التزكية" هذا؟… هذا ما سنحاول الإجابة عليه في حلقات هذه السلسلة المتتابعة بإذن الله وتوفيقه.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب
![](https://ishrakat.com/images/author.jpeg)
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الأول
الثورة البيضاء.. بلا سيف ولا دم مهراق!
قصّة حياة قرآنيّة
التحليل النفسي لرسومات الأطفال
رسالة الشعر